شعراء الإسكندرية.. رثاء الأرانب والدولفين والحشرات
يظن البعض أن رثاء الحيوانات نوعا من الترف الفكري الذي لا طائل من ورائه، الأمر الذي تميز به شعراء العصر السكندري ما قبل الميلاد، ما يعني أن حقوق الحيوان لم تكن حركة حديثة العهد، وأن أصحاب الدعوة للرفق بالحيوان هم السكندريين القدماء.
الدكتورة فكرية مصطفى صالح نشرت مقالا في مجلة كلية الآداب جامعة الإسكندرية عام 2000، يحمل عنوان "رثاء الحيوانات عند الشعراء في العصر السكندري"
وفي مقالتها أوضحت أن الاتجاه الرومانسي كان سمة من سمات الأدب السكندري، وكان سببا وراء ظهور هذا النوع من أنواع الرثاء، فالرومانسية تعبير عن الروح الفردية وعن الذات الإنسانية، وهي تفسح المجال لظهور العواطف الرقيقة التي امتدت حتى الحيوانات والحشرات.
وبناء على توضيح الدكتورة فكرية وعن ظهور مثل هذا النوع من الشعر في تلك الفترة يمكننا أن نستنتج أن الرخاء والحالة الاجتماعية والسياسية التي عاش بها السكندريون في هذا الوقت، إضافة إلى كون المدينة عاصمة لإمبراطورية ممتدة من أقصى الشرق لأقصى الغرب تحت لواء الإمبراطور الجسور الإسكندر المقدوني ساهمت في استقرار الشعب السكندري ورفاهيته وسعادته، ما جعلهم لا يبخلون أيضا في منح هذا الرخاء وتلك السعادة والحب إلى الحيوانات أيضا.
الشاعر هوميروس (900 ق.م)
في ملحمتي الإلياذة والأوديسة لم يغفل الشاعر هوميروس التعبير عن متاعب الحيوانات، فهذا حصان أخيليوس يحمل اسما كسائر البشر وهو كسانثوس، ويعبر لسيده عن شعوره مقدما بموته المرتقب، وذلك بانحناءة شديدة تقترب بشعر عنقه بأكمله من الأرض، وكأنه يقول إن موتك ليس ببعيد.
جعل أخيليوس يسأله: لماذا تتنبأ بموتي.
وهذا كلب أوديسيوس العجوز يلقى اهتماما بالغا أيضا من جانب هوميروس، فهو يرقد وحيدا حزينا لغياب سيده، أما بعد أن أعاد أودسيوس نجده يهز زيله فرحا، ويرخي أذنه اطمئنانا وبعدها "تتلقفه الأيدي السوداء لهاديس".
الشاعر ثيوكريتوس (القرن الثالث ق.م)
ابتدع فنا صادقا متمثلا في شعر الرعاة، فنجده يخاطب أحد الرعاة ويدعى ثيرسيس قائلا له: "لن يفيدك انتحابك وأنت تذوب حزنا وتزرف الدمع من مقلتيك"، "لقد رحل عنا الجدي الصغير الجميل..رحل إلى هاديس"، "الكلاب تعوي ولكن ما الفائدة الآن؟ لقد فنى عن آخره، ولم يبق منه عظم ولا رماد"
فهنا يدعو ثيوكرثيوس الراعي ثيرسيس أن يصبر ويتماسك، فلا فائدة من البكاء والانتحاب على مصابه الأليم، فلقد انتهى كل شيء والتهم الذئب الجدي عن آخره، وقد عبر ثيوكريتوس تعبيرا عما أصاب الراعي من شجن وأحزان، كما بين مدى تأثره بآلامه وتوجعه لفقده الجدي الصغير وقد علق أوجست كوا على هذه المقطوعة الشعرية قائلا "إنها عبرت بشكل واضح عن مدى ما كان يتمتع به الراعي ثيرسيس من رقة المشاعر والأحاسيس المرهفة، كما استطاع ثيوكريتوس بدوره أن يعرض ذلك بحس شعره بالغ التأثير".
"ليونيداس" من تارنتوم (حوالي 274 ق.م)
أحب الريف وبرع في تصوير الحياة البسيطة، فقد صور لنا سوء العاقبة التي ألمت بأحد الأسود لأنه افترس بقرة صغيرة إذ قال "قتل سوسوس الذي يمتلك الكثير من الماشية الأسد بسلخ جلده أصفر اللون والمشبع بالحمرة، حتى صار كلحاء الشجر بسبب التهامه لبقرة ذات ضرع وفير، فلن يعود مرة أخرى إلى الأدغال وقد دفع هذا الوحش ثمن فعلته فكان الدم بالدم وياله من مصير محزن لقتله تلك البقرة".
وفي مناسبة للتضحية بالثيران نجد "كاليماخوس" يظهر تعاطفا واضحا مع تلك الثيران فيقول "وتذهب الثيران في الصباح فتتقطع نياطا قلوبها، إذ تبدو صورة السكين الحاد تعكسها أمامها صفحة الماء"، ولعل هذا الاتجاه راجع إلى ثقافة العصر السكندري حتى صارت عملية التضحية من أجل الآلهة تمثل عذابا للحيوان.
وفي الحصان قالت الشاعرة أنيتي (أوائل القرن الثالث ق.م)
أقام "داميس" هذا النصب التذكاري للفرس الوفي بعد أن طعنه أريس في صدره، وقد خضل الثرى دمه المنبعث من جرحه الفتاك، والذي كان يتدفق عبر جلده الغليظ"، فهنا نجد أن الشاعرة أبدعت في وصف جرح الحصان، وما يتدفق من جسده من دم يخترق جلده، الذي وصفته وصفا دقيقا إن دل على شيء إنما يدل على مدى معرفتها بطبيعة التكوين الجسماني لهذا الحيوان وكيفية تدفق الدم واختراقه لجلده الغليظ.
وفي موضع آخر نجد الشاعرة أنيتي تتحدث عن حب الإنسان وصديق الشدة، ألا وهو "الدولفين"، إذ صورت لنا أحزان دولفين ألقته الأمواج على شاطئ البحر، ذلك المخلوق الذي كان يسبح ويمرح ويقفز قفزات رائعة في الهواء ثم يهبط إلى الماء، ولكنه الآن وقد ألقته الأمواج على الشاط يندب حظه قائلا "لم أعد أختال وسط من يجوبون البحار.. لن أرفع رقبتي مندفعا من الأعماق.. لم أعد ألفظ الماء حول حافات السفن رائعة الجمال، والتي تحمل صورة لي في مقدماتها.. لقد ألقتني الأمواج الداكنة على شاطئ البحر والآن أرقد هاهنا فوق هذا المكان الضيق".
وفي موضع آخر نجد الشاعر "ملياخروس" (القرن الأول ق.م)
يرثي أرنبا صغيرا جاعلا الحديث على لسان ذلك الحيوان فيقول "كنت أرنبا سريع الخطى ولي أذنان طويلتان، وقد أخذت من بين أحضان أمي وأنا لم أزل بعد صغيرا وقد قامت على رعايتي فاينون الجميلة، وغذتني بنباتات الربيع المزهرة.. لم أعد أتوق شوقا لأمي إذ أودت التخمة بحياتي بعد أن أصبحت بدينا بسبب كثرة الطعام، وقد قامت "فاينون" بدفني بجوار مضجعها كي ترى قبري في أحلامها بجوار فراشها".
وفي تلك الأبيات نرى الشاعر "ملياخروس" يتحدث برقة وعذوبة عن حيوان صغير انتزع من بين أحضان أمه فلقى حتفه، ولعل هذه دعوة من قبل الشاعر بعدم حرمان صغار الحيوانات من رعاية أمهاتهن كي يلقوا الرعاية الطبيعية وينجوا من الفناء.
"بولاينوس" (القرن الأول ق.م)
قدم لنا صورة شعرية جميلة لرثاء ظبية، قامت أفعى بلدغ ضرعها الممتلئ فانتقل السم من الأم إلى ولدها، فمات الاثنان معا وقد قال في ذلك "لدغت أفعى شرسة ضرع ظبية حديثة الوضع فأرضعت ولدها ضرعا أفسده السم وامتص من الجرح المميت لبنا مليء بالسم الزعاف، فانتقل الموت من الأم إلى رضيعها، يا لقسوة القدر فقد هيأ الرحم للصغير نعمة الحياة وحرمه إياها ضرع أمه".
في الأبيات السابقة قدم لنا الشاعر صورة جميلة فالأمهات دائما وأبدا فيض من الحنان والسكينة ينهل منه الصغار الطمأنينة دون أدنى خوف أو عذر أو قسوة، فالأم تهيئ للرضيع سبل العيش دون أن تلتمس جزاء سوى الإشباع الطبيعي لغريزة الأمومة، ولكنه القدر على حد قول الشاعر الذي حول الضرع من سبب لاستمرار حياة الرضيع إلى سبب لهلاكه دون قصد.
رثاء الحشرات
امتدت عواطف الشعراء السكندريين للحشرات أيضا، وقد عبرت الشاعرة أنيتي عن هذا الحب وهذا التعاطف مع الحشرات فقالت "أقامت ميرو قبرا لعندليب الحقول وللجندب الذي يعيش فوق شجرة البلوط، ولقد زرفت الفتاة دمعا غزيرا لأن هاديس الذي لا يرحم اختطف منها هذين المخلوقين المبهجين".
وصفت أنيتي أيضا ديكا وقع في براثن ثعلب "لم تعد تستيقظ مبكرا لتوقظني من فراشي عندما ترفرف بجناحيك ، أن اللص (الثعلب) أخذك خلسة في أثناء نومك فقضى عليك، بعد أن أمسك رقبتك بسرعة بمخالبه".