فنون من التراث المصري.. اختفت في ظروف غامضة
فن الشارع، ليس ظاهرة جديدة، فعلى مدار عشرات السنين كان يوجد لاعب البيانولا، الأراجوز، صاحب الربابة، المسحراتي، القرداتي، الأرغول، فن الواو، فرقة حسب الله، وأصحاب السير الشعبية، وغيرها من الفنون التي كانت تجوب شوارع المدن والقرى، التي قل وجودها بشكل كبير في الشارع المصري. "دوت مصر" يرصد أهم الفنون التي ميزت الشارع المصري، واختفت بعد فترة.
البيانولا
قال عنها الشاعر صلاح جاهين: "بيانولا وألابندا وحركات.. اطلعي بقى يا نصاص يا فرنكات.. أنا عازمك يا حبيبي لما ألاقيك.. على فسحة في جميع الطرقات.. نتنطط نتعفرت نترقص كدهوه.. كدهوه كدهوه كدهوه".
ربما لا يعرف هذا الجيل عن "البيانولا"، ولكنهم بالطبع سمعوا عنها من أجدادهم أو آبائهم، فهيا بنا نتعرف عليها.
البيانولا لها عدة مسميات، أطلق عليها "صندوق الدنيا"، وهي كلمة مِن التراث الشعبي المصري، تطلق على جهاز "كنتوسكوب"، يدوية الصنع والتشغيل، عبارة عن صندوق خشبي في شبه وحجم دولاب صغير، لونه أسود، ومرسوم عليه رسومات شخصيات كرتونية وزخارف خشبية.
يوجد على جانبه الأيمن "مانفيلا"، عصا لتدوير الصور داخل الصندوق بشكل يدوي، وعلى الجانب الأيسر يوجد رافع لتشغيل الموسيقي، ويتم تشتغيل قطع موسيقية مسجلة على شريط من الورق، تبعا للنوتة الموسيقية، وكانت الأشرطة الورقية تتغير حسب كل نوتة، أي كل شريط ورقي قطعة موسيقية مختلفة.
كان هناك شخصان، أحدهما يحمل البيانولا، والآخر يُمسك آلة الـ"رِق"، يبدأ الأول في تدوير المانفيلا، بينما يتراقص الآخر على الأنغام الصادرة من البيانولا.
يلتف حوله الأطفال بعد سماعهم المنادي: "اتفرج ياسلام"، فيضع لهم دكة خشبية يجلسون عليها وينظرون في الفتحات الدائرية للصندوق، وتبدأ الصور تدور داخل الصندوق بشكل متتابع، وتحكي قصصا وحكايات لأبطال شعبيين، ويضع الطفل رأسه في فتحه الصندوق، ويرى ويسمع ما يحكيه الراوي صاحب البيانولا، تعليقا على الصور وشرحها.
البيانولا هي أكثر فنون الشارع التي اختفت، ربما بسبب التطور التكنولوجي، لكن تظل شاهدة على جمال وبساطة كل ما مضى.
الأراجوز
أنا عندي يا ولاد الحلال حدوتة
أنا والدي هو اللي عاشها
ولا حد قبلي نقشها في خبر ولا مخطوط
كان والدي بالطبع زيي أراجوز ولكن حزايني
هكذا وصف فؤاد حداد "الأراجوز"
ازدهر في مصر منذ أواخر العصر المملوكي (1250- 1517)، وكان وسيلة للتسلية تستهدف الصغار والكبار في المناطق الريفية والشعبية، واستخدم للتعبير عن مشاكل المصريين الاجتماعية، ومن أشهر فناني الأراجوز في العصر الحديث، الفنان محمود شكوكو.
وكان "الأرجوزاتي" يختبيء تحت منضدة ويحرك العرائس بخيوط مشدودة تحتها، ويتحدث على لسانها بأصوات مختلفة، ويبدأ في سرد القصص والحكايات، وأحيانا كان يغني السير الشعبية المليئة بالبطولات، الكفيلة بتعليم وتثقيف وتوعية الأطفال والكبار أيضا، الذين التفوا حوله.
الربابة
الرباب أو الرَبَابَة، آلة موسيقية مصرية قديمة، ذات وتر واحد، أول من أوجدها القدماء المصريون. أكثر من يستعملها الشعراء المداحون، خصوصاً في صعيد مصر.
تصنع من الأدوات البسيطة المتوفرة لدى أبناء البادية، كخشب الأشجار وجلد الماعز أو الغزال، وأصبحت الفن التقليدي الأول لأبناء الصحراء الرحل. وتُعتبر السمة الأساسية التي تميز مجالس شيوخ البادية، ويرتبط بها البدو ارتباطا كبيرا، لأنها تتناسب مع الطبيعة الصحراوية التي يعيشون فيها.
ورد ذكر آلة الربابة في العديد من المؤلفات القديمة لكبار العلماء، أمثال الجاحظ في "مجموعة الرسائل"، وابن خلدون، وورد شرح مفصل لها في كتاب الفارابي "الموسيقى الكبير"، وهناك صورة لآلة الربابة على قطعة حرير، وجدت في إيران، وتوجد الآن في متحف بوسطن للفنون.
عرف العرب سبعة أشكال من الربابة، هي "المربع – المدور – القارب – الكمثري – النصف كرة – الطنبوري – الصندوق المكشوف".
وبعد الفتح الإسلامي للأندلس، انتقلت الربابة إلى أوروبا وتغيرت تسميتها، ففي فرنسا تسمي "رابلا" وفي إيطاليا "ريبك"، وفي إسبانيا "رابيل" أو "أربيل".
يعتبر فن العزف على الربابة موروثا شعبيا قديما شارف على الاندثار، وهو من الفنون القديمة عند سكان البادية، حيث كانوا يستخدمونها في احتفالاتهم ومناسباتهم الاجتماعية والأعياد، ويعزفونها في مجالسهم ومسامراتهم، ويكون معروفا فيما بينهم عازف الربابة، ليعزف لهم مقطوعاته التي يطربون لسمعها.
وعرف أيضا عن بعض أبناء البادية حب اقتنائها، ووضعها في مكان بارز في بيوتهم، تعبيرا عن تمسكهم بها وبموروثاتهم، ولكن الآن بدأ هذا الفن في الاندثار والغياب.
الأرغول "مزمار القصب"
الأرغول آلة موسيقية هوائية من التراث الشعبي المصري، تُصنع من قصب السكر وتتألف من قصبتين متلاصقتين، إحداهما لها ستة ثقوب، والثانية أطول من الأخرى.
يمكن للعازف أن يزود الأرغول بوصلات إضافية عند الضرورة، ويتراوح طول الأرغول بين 50 سم و200 سم، علما بأن استخدام الأرغول الأكبر حجما، بدأ بالتراجع لدى المغنيين الشعبيين.
يعزف الفنان على الأرغول بالنفخ في الفوهة الموجودة في الجزء الأعلى من القصبتين، وتُستخدم هذه الآلة لتأدية مجموعة من الأغاني الشعبية، أشهرها المواويل.
فن الواو
ازدهر فن الواو في عصر المماليك والأتراك كوسيلة غير مباشرة لمقاومة الحاكم. وأسس هذا الفن الشاعر أحمد بن عروس، الذي ولد في قنا عام 1780، أي في حقبة المماليك، ما جعل المؤرخين ينسبون هذا النوع الخاص من الشعر إلى صعيد مصر، لا سيما محافظة قنا. وكان ابن عروس يبدأ بتلاوة هذا الشعر بقوله “وقال الشاعر”، لكي لا يُنسب الشعر إليه.
وتكررت واو العطف وأصبحت سمة مميزة لهذا الشعر، فسمي لاحقا "فن الواو"، الذي يعتبر شعراً شعبياً شفهياً يتميز عن باقي أنواع الشعر بقالبه الفني، إذ يتألف من أربعة شطور، تتفق قافية الشطر الأول مع قافية الشطر الثالث، في حين تتفق قافية الشطر الثاني مع قافية الشطر الرابع.
بدأ هذا الفن بالاندثار بسبب رحيل عدد كبير من الشعراء المتخصصين فيه، بحيث لم يبقَ اليوم سوى عدد قليل من الشعراء الشعبيين المسنين، الذين يجيدون هذا الفن. ومن الملح بالتالي حفظ فن الواو وتوثيقه للأجيال القادمة.
المسحراتي
"يا نايم وحد الدايم"، بهذه الجملة يبدأ رحلته وجولته قبل الإمساك بساعتين، يحمل طبلته، ويضرب عليها بعصا، سابقا كان لابد للمسحراتي من شخص يرافقه ليحمل الفانوس، فقد كانت الحارات معتمة، ثم اختفى الفانوس بعد انتشار أعمدة الكهرباء، أما في العيد فيدور المسحراتي على البيوت ليأخذ العيدية وهو يغني: "أولادكن أروشوني، حيطانكن طرمخوني، بالرز بحليب غسلوني، من المعمولات لا تنسوني، هاتو الدفاتر وحاسبوني كل سنة وأنتم سالمين".
انقرض هذا الفن الذى يستمر 30 يوما فقط، إلا من بعض الأحياء الشعبية والأرياف. ويختلف نداء المسحراتي في أول 10 أيام من رمضان: "جئت يا شهر الصيام بالخير والبركات"، والأيام العشرة الثانية ينادي: "يا نصف رمضان يا غفران الذنوب"، ثم في العشر الأواخر ينادي: "وداعا يا رمضان يا شهر الكرم والإحسان"، أما آخر أيام الشهر فيقول: "يا وحشة لك يا شهر الصيام".
أول ظهور لمهنة المسحراتي كان في عصر الدولة العباسية، وفي عهد الخليفة المنتصر بالله، ويذكر المؤرخون أن المسحراتي ظهر عندما لاحظ والي مصر "عتبة بن إسحاق" أن الناس لا ينتبهون إلى وقت السحور، ولا يوجد من يقوم بهذه المهمة ـ آنذاك ـ فتطوع هو بنفسه، لذلك فكان يطوف شوارع القاهرة ليلا لإيقاظ أهلها وقت السحر، عام 238 هـ، حيث كان يطوف على قدميه سيرا من مدينة العسكر إلى مسجد عمرو بن العاص في الفسطاط.
وفي عصر الدولة الفاطمية، أصدر الحاكم بأمر الله الفاطمي أمرا لجنوده بالمرور على البيوت، والدق على الأبواب، بهدف إيقاظ النائمين للسحور. ومع مرور الوقت، تم تخصيص رجل للقيام بمهمة المسحراتي، لينادي: "يا أهل الله قوموا اتسحروا"، ويدق على أبواب المنازل بعصا كان يحملها في يده.
تطور الأمر إلى أشخاص عدة، معهم طبل بلدي وصاجات ويقومون بالغناء، كما شارك الشعراء في كتابة قصائد للمسحراتي مثل فؤاد حداد، الذي يقول: "اصح يا نايم وحد الدايم.. وقول نويت بكرة إن حييت الشهر صايم والفجر قايم.. اصح يا نايم".
وأصبح المسحراتي شخصية محببة للصغار والكبار، وبه ارتبط فانوس رمضان، إذ يحمل الأطفال فوانيسهم حول المسحراتي ليلا، يشاركونه الغناء على أنغام الطبلة: "حاللو يا حاللو رمضان كريم يا حاللو.. فك الكيس وإدينا بقشيش.. يا تروح ما تجيش يا حاللو".
القرداتي
كان القرداتي يجوب الشوارع حتى يلتقي جمعا معينا، فيطلب من قرده أن يؤدي بعض الحركات البهلوانية أمامهم، ومنها "عجين الفلاحة"، واعتاد القرداتي على الإمساك بـ"دُف" للتطبيل لمساعدة القرد في أداء حركاته، كما حرص على تعليم قرده بعض التصرفات المشهورة، مثل تحية الناس، والغناء على الناي، والعزف على العود، وهو من فنون الشارع المنقرضة في مصر.
السيرة الشعبية
أدب شعبي يحتوي على القيم والأخلاق، مثل قيم احترام الذات والكلمة والوفاء، التي تميز فرسان السيرة، فهي جزء أو كل الصعيد المصري، فالناس في الصعيد تعرف السيرة أكثر مما تعرف عن العالم نفسه.
تكون السيرة بطلا، حيث يستمع إليها الآلاف في الحفل الواحد، ولكل من الجالسين بطله الخاص، وليس صحيحا أن هذه السيرة تخص الأمير أبوزيد الهلالي فقط، وإنما هي سيرة الأبطال، مثل الخفاجي عامر، دياب الزغابي، لكن أبو زيد كان بطلا دراميا يحول مسار الأحداث.
ودرجت العادة على أن يروي الحكواتي في مكان عام يسمى "القهوة" هذه السير، بما اتصف به من حسن الإلقاء واستثارة المشاعر.
يسمى الحكواتي أيضا بـ"المحدث". ومن الحكاواتيه في مصر، العناترة، وهم محدثون اشتهروا برواية سيرة عنترة بن شداد وغيرها، وتروى السيرة "شفويا"، وهم ينشدون الشعر، ولكنهم يقرأون النثر بالطريقة الدارجة، ولا يستعملون الرباب.
فرقة حسب الله
لعل فيلم "شارع الحب"، الذي أنتج عام 1959، خير شاهد على ميلاد الفرقة، عندما شاهدنا الفنان "عبدالسلام النابلسي" في دور "حسب الله السادس عشر"، لتصبح "الفرقة" أحد أهرامات مصر في أحيائها الشعبية.
انطلقت الفرقة الموسيقية النحاسية من قلب شارع محمد علي بوسط القاهرة التاريخية، سنة 1860، على يد صاحبها "محمد حسب الله"، الذي كان أحد أفراد فرقة السواري، التي تعمل في خدمة الخديوي عباس حلمي، لتصبح جزءاً من التراث والفلكلور الشعبي المصري، حتي وصل صيتها إلى كل أنحاء العالم العربي،.
تعرضت هذه الفرقة العريقة إلى التهميش تحت قيادة آخر جيل من العازفين، وربما الاندثار يهددها. اشتهرت الفرقة بالملابس الحمراء منذ تأسيسها، ثم تطور الأمر بعد ذلك إلى اللونين الأزرق والأخضر.