سقع وبيع.. أو احشي واغرف
تبدو دائمًا وزارة الثقافة وزارة لا أهمية لها حيث تعاملها الحكومات المتعاقبة دائمًا وأبدًا معاملة "مجهولي النسب" أو الزوج الذي تعامله زوجته بعد أن تُنجب الأبناء معاملة مواطن من الدرجة الثانية.. أو الثالثة.
فهي دائمًا آخر الوزارات التي يتم اختيار وزير لها في أي تشكيل وزاري بعد أن يتم استكمال تسكين كل الوزارات فيأتي الوزير إليها بالصدفة أو بالإحراج.. ويرحل دون مبرر.. أو العكس.. وما بين المجيء والرحيل يعمل بلا خُطّة أو هدف واضح.
وحتى لو كانت لديه رغبةٌ في الإصلاح والتطوير.. فإن هذه الرغبة ما تلبث أن تموت منذ الأيام الأولى لتوليه مهام منصبه فالوزارة منكوبة دائمًا بالمشاكل الجسيمة والعورات الكاشفة عن تراكمات من الفساد الإداري..والبيروقراطية.. وغياب استراتيجية واضحة.. ناهيك عن الميزانية الهزيلة التي لا تكاد تكفي لتغطية نشاط واحد من أنشطة الوزارة.. والتخبط بين مدى تبعية هيئات أو مؤسسات معينة لها.. حيث يشير إلى ذلك الناقد الكبير "سمير فريد" في مقاله الأخير موضحًا أن الوزارة بها مركز للسينما وبيت للمسرح.. وقطاع للفنون التشكيلية وهيئة للكتاب.. فعلى أي أساس تتم التفرقة بين الفنون.. ويتساءل ساخرًا في أي من علوم الإدارة تجمع وزارة واحدة بين كل هذه الأشكال الإدارية؟
فمن المنطقي مثلاً أن تكون أكاديمية الفنون تابعة لوزارة التعليم العالي فهي تعمل بلائحة الجامعات.. ولكنّها تتبع وزارة الثقافة.. ومن المنطقي أن تكون قصور الثقافة تابعة للمحافظات فلكل منها بيئة ثقافية مختلفة.. ولا تتساوى الصحراوية فيها مثلاً مع البحرية.. ولكنها تدار مركزيا من القاهرة وبواسطة هيئة في وزارة الثقافة.. وكان الغرض أن توجه سياسيا من الاتحاد الاشتراكي ومضى هذا الاتحاد وبقيت الهيئة!
أتذكر بهذه المناسبة أنه منذ سنوات طويلة. في أوائل السبعينيات.. كنت ومجموعة من شباب الفنانين التشكيليين بمحافظة "كفر الشيخ" نتأهب لإقامة معرض لأعمالنا في قصر ثقافة "جاردن سيتي"، وكنت أتودد وقتها للمشرف الفني بقصر الثقافة بكفر الشيخ.. (وهو خريج كلية الفنون الجميلة) للاعتناء بلوحاتي سعيا وراء عرضها بمكان مميز والاهتمام بوضعها في إطارات ملائمة فلما لم يجد بروازًا مناسبًا لأكبر تلك اللوحات حجمًا تكرّم بالتخلص من المساحات الزائدة بنشرها بالمنشار!
هذا وقد خصني بدعوتي للركوب بجواره على يمين السائق بعربة المركز التي تحمل اللوحات التشكيلية التي سيتم عرضها.. وأثناء الرحلة إلى القاهرة لاحظت أن السائق يتوقف مرات عديدة بالسيارة.. وبناء على إشارة من المشرف.. ثم ما يلبث أن يستأنف السير بإشارة أخرى.. دون أن أفهم سر توقفه.. أو سر معاودته التحرك.
وفي إحدى تلك المرات.. وبناء على إشارة المشرف صعد رجل ريفي ليجلس إلى جواري.. فلما تململْتُ لضيق المكان.. استأذني المشرف لأركب في الخلف مع اللوحات.. فلما اتجهت إلى الباب الخلفي للسيارة وفتحته تسمرت مذهولاً في مكاني.. حيث رأيت مجموعة من الريفيين تكتظ بهم السيارة جالسين فوق وإلى جوار اللوحات ومعهم أمتعتهم ومجموعة لا بأس بها من "المعيز" و"الخرفان" الذين تولوا تمزيق اللوحات بحوافرهم.. وقد فهمت أن المشرف يتقاسم أجرة نقلهم مع السائق "ويابخت من نفع واستنفع".
فالمشرف يتقاضى مرتبًا ضئيلاً لا يفي باحتياجاته الأساسية وكذلك السائق.. والرقابة منعدمة لأن المركز، كما أسلفنا لا يتبع المحافظة ومازال يدار مركزيًا من القاهرة بواسطة هيئة في وزارة الثقافة.. وتجري في النهر مياه كثيرة وتمر السنوات.. لكن حتى الثورات لا تغير شيئًا من الأوضاع المتردية.
فإذا ما انتهى المطاف بالوزير الجديد- ذو الخلفية الدراسية الأزهرية- الذي تختلف الآراء ويحتدم الجدل بين المؤيدين والمعارضين في مدى أحقيته في حمل حقيبة وزارة الثقافة، فإن تصريحاته الأخيرة تبعث على التفاؤل وتشي بنجاح عظيم في قيادة السفينة المتهالكة وعودة الروح إليها.
فقد دعا إلى التكريس لاختلاط الخطاب الديني والأخلاقي.. بالخطاب الفني الجمالي.. وهو ما سوف يؤدي إلى إصدار أحكام دينية على مصنف فني.. وهو ما يعيدنا من جديد إلى تدعيم ثقافة الحلال والحرام وتكريس جريمة التكفير.. وذلك من خلال توصيته بإنتاج أفلام سينمائية تدعو إلى الأخلاق الحميدة.. والقيم التربوية.. ويزيدنا من الشعر بيتًا بقوله المأثور الذي يجمع بين عمق المعنى وبلاغة التعبير: "الثقافة ليست كالمحشي نحشي ونغرف على طول"!