كوارث في تربية أبنائنا (2)
الآن نقفز قفزة واسعة إلى هذين الأخوين في سن المراهقة ومطلع الشباب..
لو نظرنا الآن إلى الأخ الأكبر فلن نعثر على شيء يؤكد صلته بالطفل البريء الذي كانه في الطفولة، ولو تأملنا شخصيته سنجد تغيرًا لا يتفق ومراهق في هذه السن الصغيرة، إذ ستكون له شخصية قيادية حازمة، بها ميل للتحكم والإدارة لا يخفى، ونوعـًا من القسوة في التعامل، كما ستكون شخصية موسوسة، تميل إلى الشك وعدم الثقة في الآخرين، لأنها لم تجد من تعتمد عليه، وإنما تلخصت أغلب علاقاتها بمن حولها أن يحملونها المسؤوليات فقط، وبالتالي صارت الثقة بالنسبة إليه علاقة تسير في اتجاه واحد لا غير، من الناس إليه لا العكس.
وعلى وجهه ستجد ملامح شخص وُكل بمسؤولية أنضجته قبل أوان النضج، وجعلته أشبه بحاكم صغير في مملكة من صنعه لا يطيق من يتدخل في شؤونها، مادام يضطلع بمسؤولياتها ويؤدي المطلوب منه، وما استحق لأجله الثقة ليؤديه.
وإلى حد ما، سيصبح الأخ الأكبر شخصية تتميز بنوع من عدم الاستقرار النفسي بالسلب أو الإيجاب، فإما يكون مفرطًا في إبداء مشاعره وتعظيم نفسه والإيمان بكونه أفضل من الجميع، أو العكس، فيصبح شخصية منغلقة غامضة تحتقر الجميع خفية..
وفي كل الأحوال سيكون هناك عامل ثابت، هو فرط تقدير الذات.
ثم الأخ الأصغر..
حسنًا، مقارنة بأخيه الأكبر هو شخصية محظوظة إلى حدٍ كبير، لم لا وقد فاز بطفولة رائعة دُلل فيها من أبويه وأخيه الأكبر، وعاشها بالطول والعرض كما يقولون، فأصبح شخصية لا تحمل همـًّا لدنيا ولا آخرة، تثق عظيم الثقة في أن لا شيء ستطلبه سيتم رفضه، بعد تربية أفرطت في الدلال والرعاية وتلبية جميع مطالبها، كنوع من تعويض عن تلك الظروف الصعبة التي قد تمر بها أي عائلة.
وبنظرة أقرب، سنرى كمًّا لا يستهان به من الاستهتار في التعامل مع جميع وجوه الحياة، واعتدادًا مبالغ بالذات، ينبع من ثقتها بوجود من سيحميها ويساندها في أي محنة، بالإضافة إلى أنانية تصلح نموذجـًا للتدريس، وإيمانًا لا يتزحزح بأن من حقها الحصول على أي شيء وكل شيء.
ولا تزال العلاقة بين الأخوين كما هي.. واحد يعطي الأوامر والحماية ويحمل المسؤولية طوال الوقت، وآخر يطالب ويأخذ من الرعاية المادية والمعنوية دون توقف.
هذا عن الشكل الداخلي الذي أصبح بمرور الوقت قانونـًا غير مكتوب بالنسبة إلى الجميع، أما عن شكل العلاقة الخارجي فلا يجب أن يكون كعلاقة القط والفأر، بل إن هذه العلاقة تبدو رائعة في نظر الكثيرين بكل ما فيها من تفهم ومرح، ولفترة طويلة ستسير الأمور هكذا، حتى يحدث الصدام.. أي صدام عنيف يقول إن الأمور لا يمكن أن تستمر على ما هي عليه.
وعندها، سيدرك الأخ الأكبر فجأة كم ظلمته عائلته عندما حملته هذه المسؤولية، والتي حرمته بالتأكيد بعض بهجة الطفولة، وأنضجته قبل الأوان، وقد يشعر بالحسد وربما الغيرة، من هذا الذي يصغره بأعوام سواء محدودة أو كبيرة، فهي لا تبرر العبء الذي تحمله.
وفي الوقت نفسه سيشعر الأخ الأصغر كم أن شقيقه الأكبر أناني بغيض، استولى على ثقة والديه وحبهما واعتمادهما عليه، حتى تحول في وجوده إلى ظل لا يمكن ائتمانه على شيء، لعدم ثقتهما في حسن تصرفه، وإيمانهما بعدم قدرته على التصرف وحده، فيمتلك التصرف في كل شؤونه دون أن يجد من يردعه، لأن قوة شخصيته بدأت تطغى وتسيطر على من حمَّلوه المسؤولية، فتفاقم شعوره وحبه للسيطرة والتحكم، وانتقل من ممارسة سلطته على شقيقه الأصغر فحسب إلى عائلته بالكامل.
الأخ الأكبر يحسد شقيقه الأصغر على ما فاز به من تدليل، والأصغر يحسد الأكبر على ما فاز به من ثقة.. الأكبر يسعى لتقييد حركة الأصغر أكثر إثباتـًا لذاته وقدرته على إيصاله إلى بر الأمان بنفسه، كأنه يستنكر أن يفعل الأصغر أي شيء دون معاونته، والأصغر يرفض هذا حتى وإن كان يدرك ويؤمن بسلامة نية الأكبر، كراهية لدور الظل الذي يلعبه دائمـًا.
الأكبر حين يثور ينتقم بتشديد رقابته على الأصغر وتقييد حركته، والأصغر حين يغلي غيظـًا ينتقم بمزيد من الطلبات وإثقال كاهل الأكبر بمسؤوليات أكثر وأكثر، وتصبح العلاقة التي يراها الجميع ضاحكة جميلة غطاء يخفي كتلة غضب وكراهية يصعب الاعتراف بها، والتي ستنفجر آجلًا أو عاجلًا لتحطم علاقتهما إلى الأبد.
وهكذا تتسبب التربية الخاطئة في علاقة معقدة صعبة، تؤلم طرفيها في كل لحظة، لكن الألم الذي تفوق قسوته هذا الصراع هو شعور كليهما بأنهما يفقدان مصدرًا عزيزًا من الحب والسعادة، من شخص يشاطره الدم واللقب والعائلة، ويتحول هذا الشعور الذي لا يعوض إلى كراهية لا يمكن قمعها، ويستحيل التراجع عنها. لكنهما ومع كل ما يعانيان من ألم، ومع اختلافهما في كل شيء، فهما يتفقان في أمر واحد فقط: لومهما عائلتهما التي سمحت لهذه المأساة بأن تولد منذ البداية.
إن الأخ الأكبر لعنة كبرى في أساليب التربية العربية، فمهما كان فرق السن بين الأخوين فإن العائلة لا تراعي هذا غالبـًا، وتعامله باعتباره كبيرًا ومسؤولاً ويمكنه فهم أي شيء وعمله لإخوته الصغار، وفي حين تنضج شخصيته القيادية ويهمل التمتع بطفولته، يتحول الأخ الأصغر إلى سلوك طفولي مبالغ في العبث لا يمكنه الاعتماد على نفسه بشكل مطلق، ربما حتى مرحلة متقدمة من المراهقة وربما حتى نهاية العمر.
فعلى كل عائلة قبل أن تفكر الزج بطفل بريء إلى هذا العالم غير المحتمل، أن تكون عائلة محتملة لا تحمّل أطفالها ما لا طاقة لهم به، والمساواة بينهم تمام المساواة في التدليل، وتعويدهم جميعًا الاهتمام ببعضهم البعض من منطلق المسؤولية العائلية والأخوية، لا لأن أحدهم تصادف وولد أولًا، فيعاقب على هذا الذنب.
يا عزيزي.. كون ابنك هو الأكبر بين أطفالك ليس ذنبـًا يستحق أن يعاقب عليه بألم يرافقه العمر كله. وكون ابنك الآخر آخر العنقود ليس امتيازًا تدلله به حتى تفسده إلى الأبد.