التوقيت الثلاثاء، 05 نوفمبر 2024
التوقيت 05:30 ص , بتوقيت القاهرة

توماس ترانسترومر.. الشاعر الذي يجب أن تقرأه

كنت كلّما سئلت عن نظرتي إلى الشعر المُترجم، أجيب أن الشعر في الأصل ترجمة، هكذا يهمس الشاعر السويدي توماس ترانسترومر، الحاصل على جائزة نوبل في الآداب عام 2011. 25 عاما قضاها ترانسترومر مقعدا، ولا يهمس بكلمة، فقط إشارات وإيماءات من هنا وهناك. كان لديه نفسا هادئا في الكتابة، لا يتكلّف أو يدعي الكتابة. يكتب كأنه يرص الحروف على وقع أصابع البيانو. كان عازفا ماهرا للبيانو، حيث الشعر والموسيقى وجهان لعملة واحدة. يمكنك أن تتعرف ببساطة على عالم هذا الشاعر الهاديء والراقي. غرفة مكتبة يملؤها البياض، ورفوف كتب غير منتهية ما بين الشعر العالمي ومخطوطات الهايكو اليابانية. أليس هو القائل: الموسيقى تخبرنا بأن الحرية موجودة؟


كان لهذا الشاعر معجمه الخاص الذي لا يشبه أحدا، فعالمه يفيض بالغموض والسحر. ربما آثرت الأكاديمية السويدية أن تأخر فوزه بالجائزة، وتبعده عن قوائم الفائزين بالجائزة الأهم في الآداب. لكن يبدو أن موهبته الكبيرة وشعره الذي أخذ واقعاً مغايراً أن يحسم قرار الفوز بها. فقد قالت عنه الأكاديمية السويدية: "يفتح نافذة جديدة على الواقع من خلال صور شعرية مركزة وواضحة". كما ذكر أدونيس عنه: "كانت الصورة فجر الكلام، فإننا نجد هذا الفجر في شعر ترانسترومر".


كانت لترانسترمور قدرة عجيبة على الجمع بين الإيجاز والمجاز، بالإضافة إلى تلك الأجندة من مفردات الطبيعة كالنحل، والشجر، والجداول، واليرقات، والدخان الأسود، والسلاسل الجبلية. إنه شاعر الجمال الخفي، فالجمال يظلّ مرتبطاً بالتفاصيل وراء الأشياء. ترانسترومر لم يكن شاعراً بل عرّافاً، يحاول قراءة كف العالم والنبش وراء أسرار الطبيعة وعلاقة الأشياء ببعضها البعض.



يكتب ترانسترومر عن الوجود وعلاقة الإنسان بالخالق. يدعوك لأن تفكر معه، وتعمل كل حواسك للتفكير في الأمر.لا يمكن عزل شعر ترانسترومر عن الموسيقى، فالإيقاع ركن أساسي في جملته الشعرية التي تمتاز بالكثافة والدقة. لقد تنوعت دراسته بجامعة ستوكهولم ما بين تاريخ الأدب، وعلم النفس، والأديان. وبعد تخرجه من الجامعة مباشرة، التحق للعمل بالجامعة ثم عالم نفس في الفترة ما بين: (1960-1966). نشر ترانسترومر مجموعته الشعرية الأولى (17 قصيدة) عام 1954، والتي ضمّت قصيدة (عاصفة) التي يقول فيها: فجأة هنا يقابل الجوال/ السنديانة العملاقة العتيقة/كمثل آيل متحجر بقرون طويلة/مقابل القلعة المخضوضرة لمحيط أيلول.


ترجمت أعمال ترانسترومر إلى ما يقرب من 50 لغة. يقف هذا الشاعر في مواجهة العواصف كأنه شجرة باثقة فلقد تعرّض لجلطة دماغية، أثرت على قدرته الكلامية في عام 1990. جمعت ترانسترومر صداقة عميقة بالشاعر الأمريكي روبرت بلاي، الذي قدمه إلى الجمهور الأمريكي في بداية الستينيات. جمعتهما قراءات شعرية متواصلة، بالإضافة إلى مجموعة من الرسائل ضمّها كتاب يحمل عنوان "بريد إليكتروني جوي".


لم يتأثر ترانسترومر بأي مذهب سياسي أو إيديلوجي، فالشعر هو أداة لفضح العالم دون زيف أو تكلّف. فشعره يذهب نكهة الشتاء والمطر، فحين يقول في قصيدة "تماسك": "تأمل هذه الشجرة الرمادية/ سالت السماء/ عبر أليافها إلى باطن الأرض/ لم يبق غير غيمة متجعدة بعد أن ارتوت الأرض. ترانسترومر شاعر لا يميل إلى الثرثرة أو الفضفضة في الكلام، يكتب عن عمق الأشياء كأن الصمت مقدس. لذلك نجده يقول: خيمة الصمت تلبس الحركة/ دفة سرية لسرب من الطيور المهاجرة/ من ظلام الشتاء". عندما زار ترانسترومر دمشق وبيروت مع الشاعر أدونيس، كان على كرسيّه المتحرك بينما تساعده زوجته مونيكا للرد على أسئلة الجمهور فلم يكن الرجل يجيب سوى بكلمتي: "نعم ولا فقط".



في تقرير نشره موقع "السويد بالعربية"، تضمّن 10 أسباب لأهمية قراءة شعر هذا الشاعر الكبير. كان من بينها الطبيعة السويدية التي صورّها ببراعة ودقة، فرصد التغيرات المناخية وفصول السنة الأربعة، بالإضافة إلى تناوله فكرة الآرخبيل ومجموعات الجزر السويدية، بالإضافة إلى وجود الشمس التي نادراً ما تخلو قصائده منها.


كما تعدّ الأحلام من العناصر الخصبة في شعره، فعندما حلّ العام 1954 بدأ في تأليف كتابه الأول "الصحو هو بمثابة السقوط بمنطاد من الأحلام"، مال فيه إلى الطابع الخرافي. تناول ترانسترومر تغيرات المجتمع السويدي بدرجة كبيرة من الاحترافية والذكاء، فمن خلال رحلاته عبر القرى والجزر السودية النائية، يمكنك أن تلحظ عملية الخصحصة وتأثيرها على الحياة اليومية في السويد. أعطى شعره إحساساً بالقوة حيال ما تشعر به عندما تفكر في العالم من خلال بلد صغير في أوروبا الشمالية، وخاصة خلال الحرب الباردة، وكانت العلاقات مع الاتحاد السوفيتي خلال الفترة من 1960م و1970 مسألة في غاية الحساسية، في الساحة السياسية والأدبية. وكان “توماس ترانسترومر” من الشعراء القلائل الذين كتبوا عن الشعب الذي ظل تحت الحصار، وكانت تتم مراقبته من قبل الدول المجاورة عبر بحر البلطيق.


في كتابه النثري الصغير "الذكريات تراني" عام 1993، وصف ترانسترومر كيف كانت رحلته بين لافتات المحلات والشوارع والمطاعم، عندما تاه عن والدته في سن الخامسة إلى أن تمكن من العودة إلى المنزل. وتركت تلك التجربة تأثيراً كبيراً على أشعاره فيما بعد.


في فيديو تم تسجيله مع ترانسترومر، يجلس الرجل على بيانو خشبي كلاسيكي، وتحيط به باقة زهور صفراء في مزهرية بيضاء من البورسلين، يعزف بخفة ويكتب في قصيدته "أليجرو": "عد يوم أسود، أقوم بعزف سيمفونية هايدن وأشعر بالدفء قليلا في يدي". يعشق فرانتز ليزت وشوبرت، وتعدّ الموسيقى إحدى مكونات أشعاره. في قصيدته الشهيرة (بطاقة بريد سوداء) يقول: يحدث في منتصف الحياة أن يأتي الموت/ ليأخذ مقاساتنا. هذه الزيارة تُنسى/ وتستمر الحياة. لكنّ الثوب/ يُخاط بلا علم منّا. الصورة السابقة تجسد فلسفته حول الموت الذي يأتي في منتصف الطريق ليختتم كلمته الأخيرة.



عاش ترانسترمور حياة مليئة بالمغامرات والرحلات بين إفريقيا وإيران ودمشق وبيروت وغيرها من الأماكن، التي كان لها رصيد كبير في شعره. من أهم أعماله الشعرية: 17 قصيدة عام 1954، وأسرار على الطريق عام 1958، والسماء نصف المكتملة عام 1962، وتناغمات وآثار 1966، ورؤى ليلية عام 1970، ودروب 1973، وحاجز الحقيقة 1978، والساحة الوحشية 1983، ومن أجل الأحياء والموتى 1989، وجندول الحزن 1996، واللغز الكبير بالإضافة إلى أشعار الهايكو.