عزيزة
يحذرونّا صغارًا من الغرباء. فكل غريب يحمل شرًا خفيًا. يختفي شر الغرباء تدريجيًا كلما كبُرنا وزادت "خبراتنا". ربما لأن الخبرة تُعلّمنا كيف نقيم شر الغريب أو لأن الخبرة تعلمنا التكيف مع الشر.
نكبر فندرك أن كل قريب كان غريبي. فالغرباء بعضهم يأتي ليستقر وبعضهم عابر سبيل يرحل فور وصوله.
كان غريبي من النوع الثاني. جمعتنا صدفة بوعد أن تفرقنا كما جمعتنا.
ولعابري السبيل ميزة عن غيرهم من الغرباء. يحملون إلى حياتك رؤى مختلفة وخبرات من "أماكن" لن تطئها في يوم ما أفكارك. بدا غريبي رجلًا صاحب رؤية وخبرة، فخطر لي أن أسأله النصيحة كعادتي مع عابري السبيل.
لم يخيب الغريب الظن فيه. أنصتَ لسؤالي باهتمام وحلل مشكلتي بأمانة، ثم وصل لاستنتاجات ثبت صحة معظمها. قال وأسهب في شرح ما قال. وقبل الرحيل توجه إلي بنصيحته الأخيرة "خليكي عزيزة".
قالها ولم يعقب، تركها معلقة لتقديري وخبرتي واختباري.
تستخدم لفظة "عزيزة" في اللغة المصرية الفصيحة في سياقين. الأول سياق المدح. فالشيء أو الشخص العزيز هو المكرم، الغالي، المحبوب، ذو المكانة. أما السياق الثاني للاستخدام فهو سياق التهكم، وتحديدًا التهكم من تصرفات بعض النساء التي يجدها البعض غير مبررة. فتوصف المرأة بإنها "السفيرة عزيزة" أو توصم بأنها "تتعزز". وفي الحالين تدل الصفة "عزيزة" على صلف وتكبر وغرور.
ولهذا بدت نصيحة غريبي للوهلة الأولى سهلة. فتحقيق معنى عزيزة في كلا السياقين ليس تحديًا حقيقيًا. فمن السهل جدًا أن تكون محبوبًا ومكرمًا وذو مكانة في محيطك إذا عملت بجد. ومن الأسهل ادعاء أنك محبوب ومكرم وذو مكانة في محيطك والتصرف بصلف وغرور وتكبر بناء على هذا الادعاء.
ولكن تتحطم سهولة تحقيق معاني "عزيزة" على صخرة الأنثى المحبة، أو في الكثير من الأحيان الأنثى الباحثة عن الحب.
تتجاهل الأنثى المحبة إشارات شريكها السلبية لأنها تريد أن تعبر بسفينة العلاقة لبر الأمان. تعمل على ارضاء شريكها حتى وإن كان على حساب رضائها. وكذلك الأنثى الباحثة عن الحب، والتي قد تبالغ في التواضع حتى لا يخطئ شريكها المحتمل في تقدير ثقتها بنفسها كغرور. تتنازل دون وعي عن مرتبة " المكرمة" و"الغالية" في كل مرة تقرر أن "تلح" على شريكها المحتمل بمشاعرها وأحلامها المؤجلة في انتظاره.
تخسر "عزيزة" جزء من عزتها مع كل إتصال تجريه بمشروع الشريك بعد الاتصال الأول الذي قرر تجاهله. تخسر "عزيزة" جزء من عزتها مع سيل الرسائل المحملة باللوم والعتاب لشخص لو قيمت علاقتها به بمنظور العقل لعلمت يقينًا أنه لا مجال في علاقتهما لكل هذا "العشم".
كما تخسر "عزيزة" الكثير من العمر في الانتظار. تخسر عزيزة الكثير والكثير في كل مرة تقرر فيها "التسامح" مع كبر وصلف وغرور هذا الشريك المحتمل بدلًا من فهم هذه التصرفات والإشارات الواضحة لها بالابتعاد.
تخسر "عزيزة" لأن أحيانًا اليأس يغلب الخبرة. والرغبة في الحب (سواء كانت رغبة في إيجاده أو رغبة في الحفاظ عليه) تحفز التصرفات اليائسة. والتصرفات اليائسة، كما تعلمنا الخبرة، تأتي دائمًا بعكس المخطط له.
يؤدي اليأس للمزيد من اليأس ولا يكسر دائرة اليأس إلا أن تكون "عزيزة" عزيزة. فلا تعمل على إرضاء شريكها الذي لا يهمه أن يرضيها. وتقاوم الاتصال بمن تجاهل اتصالها. وتوفر مشاعرها لرواية أو قصيدة أو حتى "صينية بسبوسة" بدلًا من سيل رسائل العشم والعتاب.
"خليكي عزيزة" .. قالها الغريب ولم يعقب. لم يكن غريبا كله شر كما ظننت!