التوقيت الإثنين، 25 نوفمبر 2024
التوقيت 05:08 م , بتوقيت القاهرة

الجنة تحت أقدام 3 أمهات

( 1 )
في أحد أيام مايو 1986، كان هناك طفل ينتظر أن يكمل الخامسة من عمره خلال شهور قليلة. يلهو في طرقات مستشفى المعادي العسكري، يجري بين أسرّة المرضى، يعبر بين المحفات ويتفادى خراطيم المحاليل، محاولا ألا يحدث أي ضرر، وعلى مقربة منه كانت أمه ترقد في إحدى الحجرات. اشتد عليها المرض وشحب وجهها، جوارها يجلس أبيه محتضنا يدها، محاولا أن يسيطر على الطفل، الذي دأب على تناول الكاستر والجيلي المقدم من المستشفى كغذاء لأمه. يحاول أبوه أن يقربه من أمه لتضمه بيديها الواهنتين، فيستكين الطفل للحظات، ثم لا يلبث أن يهرع للهو واللعب من جديد.


يدرك الطفل أن أمه ليست بخير، رغم أنه لا يعرف لماذا! وظيفة أبيه العسكرية ترغمه على البقاء بعيدا عن الأسرة لأوقات طويلة، يقضيها الأب في الصحراوات المتعددة شرقا أو غربا، ما جعل صلة الأم والابن والأشقاء الثلاثة أعمق وأقوى. هي من علمته كثيرا من القيم التي يحتاجها طفل لا يزال في سنوات عمره الأولى، بل وورث عنها كثيرا من ملامحها.


لكن طبيعة الطفل بداخله لم تساعده على البقاء في مكان واحد داخل المستشفى، ظل يلهو ويلعب ويجري ويلهث، بينما في حجرتها، كانت أمه تلفظ أنفاسها الأخيرة وترحل في هدوء بين يدي الأب الملتاع.


( 2 )
وجد الأب نفسه يحمل أربعة أطفال، أصغرهم عمره شهرين وأكبرهم لديه من السنوات خمس، بالإضافة للحزن الذي يعتصر قلبه لفراق زوجته وحبيبته وأم أولاده. المسؤولية كبيرة والجميع من حوله ينصحونه بالزواج مرة أخرى.


تحتشد في رأسه الأساطير الشعبية عن زوجة الأب، ثم يفكر في جعل ابنه، الذي صار صديقه، يختار بقلب الطفل الصغير الذي لم يتلوث بعد. وهكذا بدأت رحلة البحث، حتى كانت تلك الشابة العشرينية البسيطة، التي تعلق بها الطفل من الوهلة الأولى، واستقر بين ذراعيها طوال المقابلة، وظل ينتظر اللقاء التالي بفارغ الصبر.


تعلق الطفل بها جعله يخاصم صديق أبيه المقرب، والذي داعبه قائلا: "بس أنا مش موافق عليها.. دي مش حلوة"، لينتفض الطفل ويطالبه بعدم ترديد ذلك وإلا سيخاصمه، ثم نفذ وعيده حين أصر الرجل وهو يبتسم مغيظا إياه.


يتزوجها أبوه وتمر السنوات. يحظى بأخ وأخت جديدين إضافة لإخوته الثلاثة. مع مرور السنوات ينسى الأب كل المخاوف التي سيطرت عليه قبلا، صار مطمئنا على أولاده الذين لم يخرجوا يوما من بيتهم إلا بملابس نظيفة وشعر مصفف بعناية. لم يذهبوا يوما للمدرسة إلا ومعهم طعامهم طازجا.


لم يشعر الطفل الذي صار صبيا أنه يعيش مع زوجة أبيه. يناديها "ماما" هو وأشقائه، حتى وإن كانت هناك مشكلات تحدث بينهم، إلا أنها في جوهرها مشكلات عادية تحدث بين أي أم طبيعية وأولادها. وعندما صار شابا يافعا أدرك أن مقولة "الأم هي من ربت" حقيقية تماما.


( 3 )
في أحد أيام يناير 2012 يقرر الشاب أن يتقدم للزواج من فتاة أحبها من كل قلبه، يقابل أهلها في زيارة ودية خرج منها مبتهجا، لكنه ظل يحتفظ بمخاوف طبيعية من أسطورة شعبية أخرى عن "الحماة" التي تنحاز لابنتها دوما، وتتعامل مع الزوج المنتظر بخبث ودهاء.


تمر الأيام والشهور حتى يتزوج الشاب من حبيبته، وينتقلان للعيش في القاهرة، إلا أنهما كانا يعودان للإسكندرية كل أسبوع أو اثنين ويستقران في منزل أسرتها فترة الإجازة التي لم تكن تتعدى يوما أو اثنين على أقصى تقدير.


خلال تلك الفترة كانت "حماته" تبذل كل ما في وسعها لإسعاده هو وابنتها، تصحو في الصباح الباكر لتعد لهما الإفطار، ثم تبدأ في التجهيز للغداء، رغم سنين عمرها التي تقترب من السبعين، وصحتها التي لم تكن في أفضل حال.


تعرف أنهما في الطريق للإسكندرية فتهرع لإعداد الطعام الذي يحبه، ثم تتصل به، ربما ألف مرة، للتأكد أنهما سيأتيان بالفعل ولن يعطلهما أي حدث مفاجئ، كي لا يضيع مجهودها هباء، وعندما تحدثه تغريه بما أعدته له من طعام.


يسافران بعد انتهاء الإجازة فتظل على اتصال دائم بهما طوال الطريق، حتى تطمئن أنهما قد وصلا بخير، حتى لو جعلها ذلك تسهر الليل ولا تنام.


وجد في ذلك البيت طيبة قلب وحنان غامر، ومحبة خالصة جعلته يناديها بلقب الأم، دون افتعال أو مغالاة. لقب يخرج من نقطة عميقة في قلبه، ذات النقطة التي تسكنها صورة أمه الراحلة، وعطف وطيبة قلب أمه التي ربته وظلت ترعاه هو وأخوته حتى يومنا هذا.


( 4 )
عندما أجلس الآن، أفكر في أن الموت حرمني من أمي حين كنت طفلا، لكن الله عوضني عن ذلك خيرا. أدعو بالرحمة لأمي التي أحمل لها في ذاكرتي صورا مشوشة من أيام الطفولة، بسمتها وصوتها الذي أتذكره بصعوبة، ثم أدعو بالصحة والعافية لأمي التي ربتني، قبل أن أدعو لأم زوجتي التي صارت أما لي بالصحة ودوام العافية، خاصة حينما تمر احتفالية عيد الأم السنوية.


كل عام وثلاثتهن بخير في الدنيا والآخرة.