الأقصر.. كرنفال السينما السمراء
بصورة أو بأخرى، تحوّلت مدينة الأقصر خلال الأعوام الأربعة الأخيرة إلى وجهة سينمائية دائمة، يقصدها صناع السينما ومتابعوها مرتين خلال العام؛ بعد أن وقع اختيار اثنين من منظمات العمل المدني المهتمة بالفنون (مؤسستي آي شباب ونون)، على المدينة ليقام فيها مهرجان سينمائي. ثلاث دورات نُظمت من كلا المهرجانين: الأقصر للسينما المصرية والأوروبية والأقصر للسينما الأفريقية، وها هي الدورة الرابعة من المهرجان الأفريقي تنطلق مساء أمس الاثنين 16 مارس في عاصمة مصر القديمة.
سبع مرات خلال ثلاث سنوات نزور فيها الأقصر التي أصبحت شوارعها ومقاهيها وقاعاتي العرض الخاصتين بها (مركز المؤتمرات وقصر الثقافة)، ترتبط شرطيا في أذهاننا بالسينما والأفلام، بصورة ربما تسببت في اختفاء التصوّر النمطي الاعتيادي عن مدينة السياحة والمعابد. لا بأس من تغيّر التصور، لا سيما إذا كان الأمر يرتبط بفعالية ذات طابع خاص غير معتاد، وبعد ثقافي وسياسي مهم، مثل مهرجان السينما الأفريقية الذي ترك مرحلة التكوين، وتبلوّرت سماته السنوية، ليصبح حدثا سينمائيا راسخا له طابعه الخاص وتأثيره في سينما القارة السمراء.
لا أستطيع الجزم بشكل كامل، ولكن الانطباع العام من الأرقام والمشاهدات والأحاديث الشخصية هو أن المهرجان أصبح حدثا ينتظره صنّاع السينما الأفارقة، يسعون للمشاركة في مسابقته وصندوق الدعم الخاص به، وورش العمل المقامة على هامشه، انطلاقا من رغبة في التواجد بمصر ربما، أو لتراجع الاهتمام الكلاسيكي بالسينما الأفريقية في المهرجان العربي الأكثر عراقة "أيام قرطاج السينمائية"، والذي أصبحت مسابقته فقط هي المقتصرة على الأفلام العربية والأفريقية، بينما تحررت باقي برامجه وفعالياته من هذا الإطار إلى أجندة اهتمامات أكثر كونية.
ترتيب أهمية المهرجانات بالنسبة لكل صانع أفلام أمر شخصي يخص صاحبه أكثر مما يخصنا، لكن المهم أن الأقصر الأفريقي أصبح المكان الوحيد الذي يمكنك أن تقابل فيه سنويا أكبر أسماء في سينما القارة السمراء. في الأقصر قابلنا سليمان سيسيه (مالي) وموسى توري (السنغال) ورضا الباهي (تونس) وداود أولاد السيد (المغرب) وفلورا جوميز (غينيا بيساو) وآلان جوميز (السنغال) وعبد الرحمن سيساكو (موريتانيا)، وبالتأكيد هايلي جريما الذي يدير كل عام بنجاح، ورشة تدريبية مع عدد من شباب المخرجين المصريين والأفارقة، أبدى كل من تحدثت معهم ممن شاركوا فيها خلال الدورات السابقة رضاهم عنها، وبالتحديد عن الجهد والإخلاص اللذين يبذلهما الإثيوبي الكبير مع طلبته.
في الأقصر أيضا تعرفنا على مواهب شابة تحولت لأسماء لها ثقلها في القارة، فكان العرض المصري الأول لأفلام نجيب بلقاضي (تونس) وهشام العسري (المغرب) وجويل كاريكيزي (رواندا) ونانتيناينا لوفا (مدغشقر). الحضور الشاب الذي يتواصل هذا العام بفيلم مرتقب هو "جري" أو "Run" للإيفواري فيليب لوكوت، الذي ستحضر سينماه لمصر للمرة الأولى بعد الإشادة التي نالها فيلمه الصيف الماضي خلال مشاركته بقسم نظرة خاصة في مهرجان كان السينمائي الدولي. وكذلك بفيلم "ضربات أنطونوف" أو "Beats of The Antonov" لحجوج كوكا، أول فيلم في تاريخ دولة جنوب السودان الناشئة يلقى سمعة دولية جيدة ويتنقل بين المهرجانات العالمية.
أما في التكريمات فالمهرجان اختار هذا العام واحد من كبار القارة السمراء بحق، وهو البوركينابي إدريسا ويدراوجو. اختيار متماش مع كون بوركينا فاسو هي ضيف شرف المهرجان، ولكنه أيضا حضور لأحد أبرز الأسماء في تاريخ السينما الأفريقية. وديدراوجو الحاصل على جائزة لجنة التحكيم من مهرجان كان عام 1990 عن "القانون"، وجائزة النقاد من نفس المهرجان عام 1989 عن "الجدة"، بالإضافة لكونه ضمن قائمة محدودة جدا تضم صناع أفلام فازوا بجائزة مهرجان فيسباكو (المهرجان الأكبر في عالم السينما الأفريقية) على مستوى كل من الأفلام القصيرة والطويلة. ومن مصر يكرم المهرجان المخرج خالد يوسف والنجمة ليلى علوي ورجل الأعمال نجيب ساويرس (في تكريم غير مفهوم ربما يكون سببه دعمه للمهرجان، لكنه بالتأكيد لأسباب غير سينمائية).
يستمر مهرجان الأقصر للسنة الثالثة على التوالي في تنظيم ورشة لشباب النقاد في مصر، الورشة التي أشرف عليها في العامين الماضيين الناقد الفرنسي الكبير أوليفيه بارليه، المبرمج السابق للسينما الأفريقية في مهرجان كان، ولكن حضوره هذا العام تعذر لأسباب صحية، ليأتي بديل ممتاز هو الناقد السنغالي تشيرنو إبراهيما ديا، رئيس تحرير موقع أفري سينيه السينمائي المتخصص والمحاضر في جامعة بوردو الفرنسية، في اهتمام حقيقي يوليه المهرجان بدأب لتطوير الحركة النقدية الشابة، ربما لا يقوم به أي مهرجان مصري آخر.
الاهتمام بالنقد لا يقتصر على الورشة، بل يمتد لتنظيم مائدة مستديرة ومؤتمر حول قضايا ومشكلات نقد الفيلم الأفريقي، يشارك فيه ـ إما بالحضور أو بأوراق بحثية أو كلاهما ـ عدد من النقاد السينمائيين من مختلف الدول والأجيال، من ضمنهم الأستاذ علي أبو شادي من مصر، محرز القروي من تونس، وتشيرنو إبراهيما من السنغال.
الدورة الرابعة لمهرجان الأقصر للسينما الأفريقية افتتحت مساء الأمس بعرض الفيلم الأفريقي الأنجح في 2014 "تمبوكتو" لعبد الرحمن سيساكو، عرض جاء لأهمية الفيلم وليس لحداثته، فالفيلم عُرض من قبل في مهرجان القاهرة الماضي، لكنه فاز بعدها بجوائز سيزار الفرنسية ورُشح لأوسكار أحسن فيلم أجنبي. وبدأت عجلة السينما الأفريقية السنوية، بصخبها وألوانها وقضاياها الدائمة وبدائيتها أحيانا، لنبدأ معها رحلة سينمائية، نشاهد فيها أفلام ونقابل صناع ربما تكون هذه هي الفرصة الوحيدة في العالم لملاقاتهم.
شاهد