لبنان "غير المدني" يطوق أبناءه
بدا الارتباك على وجهها وهي تسألني: "بتنصحينا نروح ع قبرص نتزوج مدني؟؟ أنا وشريكي قناعتنا نتجوز مدني بس عم يخوفونا أنو ممكن نلاقي عراقيل هون بلبنان بس نرجع".. قَصدتْ الشابة بالعراقيل أمورا تتعلق بتسجيل الأبناء في الدوائر الرسمية وحزمة من الحقوق، التي قد تتجرد منها هي وأبناؤها، إنْ هي قررت أن تخرج عن سطوة الطوائف وتُعلن أنها بلا طائفة.
ما ضاعف من تردد الشابة حلول موعد زواجها في ذُروة تصاعد الجدل في لبنان حيال توقف وزارة الداخلية اللبنانية عن تسجيل عقود الزواج المدني، وما أعقب ذلك من تحرك تُوج بتظاهرة حاشدة تطالب بالزواج المدني الأسبوع الماضي.
أخذتُ نفسا عميقا قبل الجواب، وحاولتُ طمأنَتها إلى أن بقاءها في لبنان وعقدها زواجا دينيا لايعني أنها تخلّت عن مبادئها العلمانية، خصوصا أن وضعها المادي لا يسمح بالسفر إلى قبرص، ولعل اختيار رجل دين منفتح قد يخفف من شعورها بأنها خانت قناعتها.
بعد محادثة قصيرة شعرت الشابة بشيء من الاستكانة لقرارها الزواج في لبنان في محكمة شرعية تخفيفا لأعباء مادية، ولاحتمالات عرقلة مستقبلية لا طاقة لها ولشريكها على تحديها. اطمأنت لكن كنتُ أنا من أشعر في داخلي بالغضب من نفسي ومن الوضع الذي استدرجنا إليه بحيث بتنا نحاول التسوية ما بين قناعاتنا ومابين الضغوط التي تحول دون تطبيقها، فنضطر أحيانا إلى الخضوع لمنظومة الأمر الواقع وتنحية قناعاتنا وأحلامنا جانبا.
كم يبدو أمرًا مستفزًا أن لا يتمكن شابان من التحكم في قرار شخصي لا يعني أحدا سواهما كالزواج، فيعجزان عن الزواج مدنيا والعيش وفق قناعتهما في بلدهما.
إنه مطلب قديم..
أعني أن يكون لنا قانون مدني للأحوال الشخصية، لا قانون يتبع المحاكم الشرعية والدينية التي تمتلك سلطة كبرى على حياتنا كأفراد في الزواج والطلاق والحضانة والإرث والسفر.. منذ الستينيات برز في لبنان مطلب قانون مدني للأحوال الشخصية، وكانت الظروف السياسية والأمنية تتحكم بمسار المطلب.
اعتاد لبنانيون ولبنانيات على الذهاب إلى بلد أوروبي للزواج مدنيا وكانت قبرص القريبة الوجهة الأولى.. التغير الكبير حدث عام 2013 من خلال عقد أول زواج مدني في لبنان وتسجيله رسميا.. كان انتصارا فعليا للراغبين في التفلت من براثن الطوائف والأديان. استند الزواج إلى قرار صادر في حقبة الانتداب الفرنسي تتيح لمن لاطائفة له الزواج المدني. وعليه، شطب الزوجان المدنيان الأولان في لبنان "نضال وخلود" مذهبيهما عن بيانات قيديهما لتسهيل المهمة.
شجعت الخطوة شبانا وشابات على شطب مذاهبهم عن بيانات القيد ليكونوا مواطنين للبنان وليس لطوائفهم. هذه الخطوة لم تنه الإشكاليات حول القرار، خصوصا أن لا قانون مدنيا يرعى شؤون المتزوجين مدنيا في قضايا الإرث والحضانة والطلاق.. منذ 2013 سجلت الداخلية اللبنانية معاملات المتزوجين مدنيا، لكنّها الآن توقفت بذريعة أن لا قانون يرعى تلك الزيجات.. استعيد هذه الخلفية لفهم سبب ارتباك الشابة وآخرين غيرها.. يشعرون أنهم ليسوا أبناء طوائفهم لكنهم محاصرون بها.
المسألة خاضعة للتأويلات والتجاذبات السياسية..
أذكر في العام 2013 وفي ذروة اشتباكات السياسة والأمن المتكرر في لبنان كنت أجد على أبواب عدد من المساجد ملصقات لندوات ومحاضرات دينية تحذر من مخاطر الزواج المدني..كان يدهشني ويثير غضبي في آن، إذ كان ولا يزال الاستنفار الديني حيال الأمر يتقدم على كثير من الإشكاليات الحقيقية في لبنان.
عربيا وباستثناء تونس، فإن كل الدول العربية لا تُشرع الزواج المدني، ويخوض رجال الدين العرب حملة شرسة لمجابهة الفكرة. وليس مستغربا أن تعاظم حضور وضغط التيارات الإسلامية سبب انتكاسة فعلية في هذا المطلب، بل شهدنا كم سعت حركات اسلامية للمطالبة بتعدد الزوجات وخفض سن الزواج.
يرى سياسيون ومسؤولون أن حراكا مطالبا بإقرار الزواج المدني هو أمر ثانوي وغير ملح وفي غير وقته.. بسهولة يُشهر هؤلاء في وجه الحراك المدني أن الظروف لا تسمح وأن أولويات محاربة الإرهاب والأمن تتقدم على أمر "هامشي" كهذا.
في لبنان يدين المسؤولون السياسييون من وزراء ونواب بالولاء لطوائفهم، ونحن كأفراد نطوق بكم هائل من الإجراءات والحسابات التي تقوم على قاعدة "من أي طائفة"، نحن كمقدمة لأي خطوة عملية تطبيقية أخرى.
العراقيل مستمرة في وجه حتى المكتسبات المحدودة التي حققها الناشطون المطالبون بالزواج المدني، إذ لا يظهر أن السياسيين عندنا يشعرون أنهم معنيون بمخاطبة قطاعات شبابية وثقافية وحتى حين يفعلون فهم يقولون ذلك على نحو خجول عابر.. لا أحد يريد أن يخاطر بحسابات الطوائف وبالتالي موقعه السياسي والانتخابي.
قضية الزواج المدني في لبنان تطرح في لحظة تعاني منها مجتمعاتنا ودولنا من وطأة حروب مذهبية دموية. عرقلة تشريع حالات المتزوجين مدنيا والتلكؤ في إصدار قانون للزواج المدني لا يساعد على تحصين وجود شريحة واسعة من الذين يعيشون خارج هذا الانقسام.
وهنا يلتقي من يدعون أنهم يحاربون الإرهاب مع داعش والنصرة والإخوان المسلمين وحزب الله.. جميعهم لا يريدون أيضا زواجا مدنيا.