اكتشاف "قُمرة"
بعد التنقل بين عدد من المهرجانات السينمائية العالمية والعربية والمحلية، يختفي عادة شعور الدهشة داخل نفس الناقد السينمائي، ويصبح لدى المتابع المنتظم توقعات مسبقة للفعالية التي سيحضرها، نادرًا ما يأتي توقع خاطئ. صحيح أنك تجد ما يُفاجئك من حين لآخر، فيلم مدهش أو فنان تكتشفه أو عرض ذو طابع خاص، لكنه في النهاية يبقى استثناءً لقاعدة يصعب نفي صحتها: لا توجد مفاجآت في عالم الأحداث السينمائية.
ما سبق رأي وشعور شخصي دعمته تجارب متتالية، المهرجانات والمؤتمرات وورش العمل تتشابه، على الأقل شكلاً، ويكون البحث دائمًا عن المضمون الذي يستحق عناء الترحال. لذلك فعندما يتم تنظيم فعالية جديدة على مستوى الشكل، فإنه أمر يستدعي الاهتمام، ويدفع المهتم لاتخاذ قرار مثل زيارة قطر في وقت لا تبدو فيه العلاقات السياسية بين مصر وبينها في أفضل صورها.
الفعالية هي "قُمرة"، التي يسميها البعض مهرجانا ويصفها آخرون بالملتقى، بينما لا تقول عنها المطبوعات الرسمية أكثر من أنها "أحدث مبادرات مؤسسة الدوحة للأفلام"، وهو التوصيف الذي ساعد في حالة الحيرة التي تنتاب كل الحضور تقريبا، فللمرة الأولى منذ أعوام نذهب إلى حدث سينمائي ونحن لا نملك حرفيا أي تصور عما قد يكون عليه شكله ومضمونه، بخلاف فكرة عامة جدا، تبدو جذابة لحد كبير.
الفكرة هي جمع أصحاب 29 فيلما قيد التنفيذ، 25 فيلما طويلا بين روائي وتسجيلي، وأربعة أفلام قصيرة، كلها أعمال أولى أو ثانية لمخرجيها، الذين يحضرون مع المنتجين، لتُنظم لهم "قمرة" أمرين، الأول هو اجتماعات مع أشخاص قد يكونون مفيدين للمشروعات، سواء ممثلو جهات تمويل قد تدعم الفيلم أو مهرجانات قد تتفق مبكرًا على ضمه لبرامجها، والثاني هو محاضرات مع خمسة من كبار صنّاع السينما حول العالم، ينقلون خبرتهم لأصحاب المشروعات، ويشرف كل منهم بشكل شخصي على عدد من المشروعات، التي تم اختيارها بناء على تماشيها مع ذوق الأستاذ ونوع السينما التي قدمها في مشواره، حسبما عرفت لاحقا من فاطمة الرميحي، المديرة التنفيذية لمؤسسة الدوحة للأفلام ومدير قُمرة.
الأساتذة الخمسة الذين تم إعلان أسمائهم قبل شهرين أو أكثر هم المخرج البوسني دانيس تانوفيتش، صاحب دب برلين الذهبي 2013، المخرج الروماني كريستيان مانجيو، سعفة كان الذهبية 2007، المخرج الموريتاني عبد الرحمن سيساكو، المرشح للأوسكار مؤخرا عن فيلمه "تمبوكتو"، الممثل المكسيكي الأشهر جايل جارسيا بيرنال (بابل، لا، تعليم سيئ)، وأخيرا الممثلة الإيرانية ليلى حاتمي، بطلة "انفصال" لأصغر فرهدي، والتي اعتذرت عن الحضور في اللحظات الأخيرة ليقوم بجدول أعمالها المخرج الفلسطيني إيليا سليمان، المستشار الفني للمؤسسة، في خطوة غير متوقعة ربما تكون في اعتقادي من حسن حظ أصحاب المشروعات، فصانع أفلام بحجم إيليا قد يكون أكثر إفادة من ممثلة مهما كانت موهبتها.
الفكرة تبدو إذن جذابة، وإن كانت متخصصة جدا ومرتبطة بالصناعة، الأمر الذي جعل قائمة الحضور من الإعلاميين لا تتجاوز 14 شخصا فقط، في سابقة فريدة من نوعها أن يكون هناك تجمع أو مهرجان، عدد صناع الأفلام فيه أضعاف عدد الإعلاميين. الأمر الذي جعلنا كإعلاميين نحذو حذو صنّاع الأفلام، ونحضر معهم الحلقات الدراسية للأساتذة، وبعض الاجتماعات التي يُسمح فيها بتواجد الإعلام، فهناك بالطبع اجتماعات خاصة ليست مفتوحة للحضور.
في محاضرته تحدث إيليا سليمان عن مشواره السينمائي، عن رحلة تحوله من شاب لا يكن إعجابا خاصا بالسينما أكثر من باقي الفنون، إلى صانع أفلام مثير للجدل يتعرض للهجوم من قبل من يشاهد فيلمه الطويل الأول "سجل اختفاء"، وصولا لتنصيبه من قبل الجميع، يتقدمهم من هاجموه من قبل واتهموه بالعمالة، كواحد من أهم صناع السينما ليس فقط في فلسطين أو المنطقة العربية، بل في العالم كله. ساعتين عن مشوار سينمائي يستحق الاحتفاء، على قلة أعمال صاحبه.
حتى لحظة كتابة هذه السطور تبدو الأمور جيدة، المحاضرات ممتعة، المقابلات الإنتاجية تتم بشكل لا يهدأ (من المقرر أن يبلغ عددها 250 مقابلة خلال خمسة أيام)، والتنظيم الجيد يتضح في كل التفاصيل. ويبقى المحك الحقيقي هو الفائدة النهائية التي سينالها كل مشروع، سواء بالعثور على تمويل أو على الأقل بالنصيحة الفنية، وهو أمر لابد أن يقوم به منظمو المهرجان قبل الجميع، يتابعون مشوار المشروعات ويعرفون من أصحابها مدى استفادتهم من التواجد في قُمرة، فإذا كان رد الفعل إيجابيا، فيمكننا وقتها أن نعلن عن انطلاق مبادرة حقيقية ـ وأصيلة في شكلها ـ لصالح السينما في المنطقة.