أسطورة الفتاة التي تسمّرت في مكانها (1)
في طفولتي، كنتُ طفلة هيّابة خجولة، أتوارى وراء أمي حرجًا إذا قابلنا شخصًا لا أعرفه، وأختلس النظر من خلف ثوبها وأتأمله، وأشعر بالهيبة إذ أجده طويلًا، عريضًا، كأنه أكبر من الحياة، فأشعر بالإكبار لعالم "الكبار"، وكنت أتخيل نفسي بهذا الجسم الكبير الطويل، فلا أستسيغ الخيال وأستغربه.
حسنًا، في لمح البصر دار بي العالم، وأصبحت في عالم الكبار رسميًّا، لكن الشعور الطفوليّ بأن "الكبار" الذين تجاوزوا العشرين من عمرهم هم كائنات أسطورية أكبر من الحياة لا يزال يراودني أحيانًا، لهذا أمضي الكثير من لحظات حياتي مستغربة غباء "الكبار"، أو حيدتهم عن الحق / العدل / الصواب، أو كونهم أشرارًا بلا ذرة حياء، وخلال مراقبة تلك الملهاة الكبرى المسماة "البشرية"، أشعر أن لسان حالي يقول: "جاتكم البلا.. خدعتوني".
على المستوى الجسدي، لم أشعر قط أنني كبيرة بالشكل الذي كنت أتخيل كل الناس عليه في طفولتي؛ جسدي ضئيل، وقامتي قصيرة، لكنني أقابل صديقات أمي "الكبيرات" فأجدهن في طولي نفسه، وقامتي نفسها، وأكتشف أنهن كنَّ دائمًا كذلك، وأنني وحدي السبب في المنظور الذي رأيته لهن، وللعالم كله، بعينيّ الطفوليتين البلهاوين الحمقاوين.
لم يختلف شيء فيَّ منذ طفولتي حتى الآن إلا أن الأرض أصبحت أبعد قليلًا عن متناول يدي، لكن المنظور لا يزال كما هو، لا أزال أرى نفسي بمعزل عن العالم، بمنظوري الخاص الذي يجعل الكوكب كله أكبر وأكثر اتساعًا من أن يستوعبني وأستوعبه، والذي يراني بعد طفلة صغيرة غريرة، لا تليق بها كلمات مثل: "فاضل سنة وأخلص الجامعة"، "فاضل سنة وأهاجر"، "أنا روايتي الأولى فازت بجائزة دولية"، "لازم أشتري هدية للنونّة قبل ما أميرة صاحبتي تولد".
كل هذه الكلمات أكبر مني بكثير، كأنها تخص شخصًا آخر؛ أنا لا أزال في غرفتي في بيتنا القديم، أتسلل بروايات رجل المستحيل وملف المستقبل حتى لا يتم ضبطي، وأحرم المصروف، وسأذاكر كثيرًا، ثم أتشقلب مع هذا الكنز تحت البطانية ليلًا، وهو ما يستدعي سرقة الكشاف الصغير من الصالة، وتخبئته تحت الوسادة.
يفقدني هذا الإحساس توازني أحيانًا، وتمر بي بعض الليالي وأنا غير قادرة على تصديق أنني الآن أمام المدفع لا خلفه.. صحيح أنني لم أنتبه لوقوفي أمامه إلا متأخرًا، لأنني عشت أغلب حياتي محملة بمسؤوليات تفوق سني لظروف معقدة، واندفعت لأتحمل الكثير بشجاعة الحمقى، ولم أعرف أي بؤس هذا إلا حين نضجت.
ليتني لم أنضج، وليتني لم أكبر، وليتني لم أتمن أن أفعل.
يخطر في بالي أحيانًا أنّ عليَّ إيجاد وسيلة ما للعودة بالزمن إلى الخلف، والعثور على الصغيرة التي كنتها منذ عشرين عامًا فحسب، وأحتضنها، وأدللها، وأحميها بكل قوتي، وأجعلها آمنة، وأقص عليها حواديت الجنيات، وحوريات الشجر والبحر، وأخبرها أن السحر موجود، والأحلام تتحقق، وبابا نويل سيأتيها في آخر كل عام ليترك لها هدية، لأنها بحق طفلة طيبة.
تدفعني تلك الأفكار إلى ليلة من الليالي الطويلة الثقيلة، أشعر بدبيب ثقلها يقترب من قلبي في لحظة صمت غير متوقعة وسط ضجيج العمل، فأتلكأ في العودة إلى البيت، وربما أتصل بصديقتي وأقول لها: "هاتي حضن"، فتعدني بواحدٍ حين نلتقي، وهكذا أعود إلى البيت، وأشد الغطاء فوقي، ربما يأتيني النوم، لكنني أظل أتقلب، وفي النهاية أتكور حول نفسي، وأضع دبدوبتي الكبيرة خلفي، ورأسها أعلى من رأسي، ويدها الصغيرة فوق كتفي، لكن هذا الحضن الصغير لا يفلح.
يختنق صدري بشعور مروع، وكأنني وحدي في ميدان كبير، يعج بأناس يروحون ويجيئون من حولي، كل منهم يعرف من أين أتى وإلى أين يذهب، أما أنا فتائهة، لا أستطيع أن أعرف طريقي.. من أنا؟ ماذا أتى بي إلى هنا؟ متى وكيف انفرطت كل هذه السنوات من عقد عمري، ووجدت نفسي بغتة في السادسة والعشرين؟
أنا لا أستحق أن أكبر بهذه السرعة.
أخرج إلى أمي، وأكره أن أُبدي أمامها ضعفًا، فأقول بلهجة طفولية تتدلل: "هاتي حضن".
فتأخذني بين ذراعيها باسمة، ويبدو أنني أبالغ في التعلق بذراعها والتشبث به، فتسألني بحنوٍ: "ما لك يا لولو؟"
فأجيبها بهمهمة قصيرة، وأخشى أن أتكلم فيخونني صوتي، وتبدو فيه بحّة البكاء.