التوقيت الأحد، 24 نوفمبر 2024
التوقيت 04:20 م , بتوقيت القاهرة

سطحية ووحشية

خلال الأسبوع الماضي سيطر موضوعان على اهتمام عامة الناس وملأت صورهما الشبكة الافتراضية ومواقعها للتواصل الاجتماعي.. موضوع الفستان ذي الألوان الغامضة والذي يراه البعض أبيض في ذهبي والبعض الآخر أزرق في أسود.. وموضوع الكلب الذي قام بحماية صاحبه ودافع عنه فتركه صاحبه للتعذيب والقتل.


ويكشف اهتمام الناس بهاتين القصتين ما نعاني منه لا في مجتمعنا فحسب، بل وحول العالم الذي يدّعي التحضر أيضا.. ما معنى أن تقوم الدنيا ولا تقعد من أجل لون الفستان؟ هاشتاج عالمي جبار تحت مسمى الفستان (The dress) لإبداء الآراء حول هذا الموضوع شديد الأهمية!


مامعنى أن يقوم بحث وتحقيق صحفي في السي إن إن لمعرفة مغزى وأسباب رؤية الناس للفستان بألوان مختلفة؟ وتحت التحقيق تجد سؤالا لاستطلاع الرأي يقول: هل ترى ألوان الفستان: 1- أبيض وذهبي، 2- أزرق وأسود 3- ألوان أخرى 4- لا أعرف!!



معنى هذا أن السطحية والتفاهة والهيافة تجتاح العالم وأن الغالبية العظمى من جمهور المشاهدين والقراء تهتم بموضوعات الخداع البصري وما يشبهه من السحر والشعوذة والغموض وسطحية التفسير.


وما معنى أن يتفق مجموعة من الشباب على التسلي بتعذيب كلب ضعيف يتقوون هم عليه بعددهم وأسلحتهم ويتلذذون برؤيته يتأوه ويبكي ويسترحمهم تارة ويستعطف صاحبه قاسي القلب تارة أخرى؟ ما اللذة التي يجدها مخلوق أقوى في تعذيب أو إرهاب أو قتل مخلوق أضعف؟ لماذا اختفت كلمة الرحمة من حياتنا تماما؟ 



أين مقولة الكبير يرحم الصغير والقوي يعطف على الضعيف؟ لماذا تربعت الوحشية على قلوب البشر في القرن الواحد والعشرين وانقلب تاريخ الحضارة الإنسانية رأسا على عقب وعاد البشر إلى قرون التخلف الحضاري وصاروا أشبه برجل الكهف الأشعث العدائي المتخلف المتوحش؟


في طفولتي كنت أقرأ قصة الأخوين المتناقضين ليل نهار ولا أملّ من قراءتها.. كان أحدهما رحيما طيب القلب لما وجد عصفورا مصابا ضمد له جرحه وأطعمه واستضافه في بيته حتى شفي.. فلما استطاع العصفور الطيران ذهب وعاد في اليوم التالي للأخ الرحيم بحبة سحرية ليزرعها فتخرج ثمرة كبيرة كالبطيخة العملاقة وعندما يشقها هو وأولاده يجدون فيها كنوزا ككنوز مغارة علي بابا.


أما الأخ القاسي فلما علم بقصة أخيه اصطاد عصفورا وجرحه حتى يضمد جرحه فيما بعد طامعا في نصيب مثل نصيب أخيه الرحيم.. لكن الحبة السحرية أخرجت للأخ اللئيم ثمرة كالبطيخة العملاقة مليئة بالعقارب والحيات وكل ما تكرهه النفس.. وكان مغزى القصة واضحا: الرحمة تخرج الكنوز والقسوة تنتج كل شر.


أما أطفال هذه الأيام فيتعلمون قصصا أخرى فيها جمع الطيور في قفص وحرقهم أحياء – أنظر كتاب الصف الثالث الابتدائي.. ويلعبون افتراضيا بكل أنواع الأسلحة ليقتلون خصومهم.. ويشاهدون كل أنواع العنف في وسائل الإعلام المحيطة بهم.. ويتفاخرون بالقوة ويتمايزون بمن هو الأكثر عنفا.. ويرون مثلهم الأعلى في الكبار الذين يضحكون إن وقع شخص في الشارع أو عثرت قدمه.. ويقهقهون على مواقف الخداع السخيفة في برامج اخفاء الكاميرات والاستظراف والاستخفاف بالناس في الشوارع والأماكن العامة.. وتؤسس الاعلانات فكرة أن الرجولة هي القوة البدنية لا القوة النفسية والأخلاقية.


ماذا نعلم أولادنا؟ أين علماء الاجتماع؟ لماذا لا تقوم دراسات تفسر ظاهرة الوحشية التي تفشت في العالم؟ ولماذا صرنا سطحيين نهتم بما ليس مهما ونترك الأساسيات؟ وماذا ننتظر من جيل يتعلم في المدارس طريقة حرق الأعداء في الأقفاص ولا يتعلم كيفية عبور الشارع بطريقة صحيحة؟ منتهى الوحشية وقمة السطحية.. وداعا للحضارة الإنسانية.