التوقيت الثلاثاء، 05 نوفمبر 2024
التوقيت 04:32 م , بتوقيت القاهرة

قبل توزيع الأوسكار.. "بيردمان" صراع الصناعة والتكنولوجيا

مساء الأحد المقبل بالتوقيت المصري، أو فجر الاثنين بالتوقيت الشرق أوسطي، يتم توزيع جوائز الأوسكار رقم 87. الحدث السينمائي السنوي الأكثر جذبا للأضواء والمتابعات، والأعلى إثارة للجدل بين محبي السينما في كل مكان بالعالم. ومهما كان موقفك من جوائز الأوسكار، المتهمة دائما بالتسييس والسطحية وتوازن المصلحة وغيرها من الاتهامات، فإنها تظل حدثا لابد وأن يشغل قدرا من اهتمامك.


في الحفل المنتظر وفي الفئة الأهم على الإطلاق (أحسن فيلم)، وبالرغم من ترشيح ثمانية أفلام للجائزة، فإن المنافسة تكاد تكون محصورة بين عنوانين فقط، اقتسما من قبل كل الجوائز السينمائية السابقة للأوسكار، والتي تعد بشكل أو بآخر مؤشرا لاتجاه جوائز الأكاديمية. الفيلمان هما "بيردمان" أو "الرجل الطائر" لأليخاندرو جونزاليس إيناريتو، و"صبا" "Boyhood" لريتشارد لينكلاتر، وهما بالفعل أهم وأقيم ما قدم في السينما الأمريكية خلال العام، بالتحديد في عنصر الجمع بين التجريب الشكلي والقيمة الفنية والفكرية.


وكنا قد تناولنا "صبا" بالنقد والتحليل في مقال سابق على صفحات دوت مصر، مبكرا جدا قبل بدء موسم الجوائز، أشرت فيه إلى قيمة الفيلم كعمل يجمع بين ثلاثة أشياء نادرا ما تجتمع، وهي الحس الروائي والتسجيلي والتجريبي، فهو عمل تجريبي في شكله الذي صار الجميع على علم به، من تصوير عدد من الممثلين على مدار سنوات متتالية يجتمعون كل سنة لتمثيل بعض مشاهد عن حياة أسرة أمريكية، وهذا ما أسفر تلقائيا عن حس تسجيلي، حتى وإن كانت المشاهد روائية مكتوبة مسبقا.


ما يهمنا في هذا المقال هو الفيلم الآخر "بيردمان" "Birdman" للمكسيكي الاستثنائي إيناريتو، الذي أصبحت عودته كل عدة سنوات لتقديم فيلم جديد، حدثا سينمائيا يستحق الترقب.


ناتج أكبر من عناصره


تحذير: (الجزء التالي يحتوي على معلومات تكشف عن نهاية الفيلم، افتراضا بأن كل من يهتم قد شاهد الفيلم بالفعل. إذا كنت لم تشاهد الفيلم بعد، وكنت ممن يؤمنون أن الفيلم هو حكايته، فهذا الجزء ليس موجها إليك).


"بيردمان" عمل قيمته أكبر بكثير من قيمة كل عنصر من عناصره على حدة، فهو عمل ينتهج أسلوب سردي وبصري مغاير، عبر الإيهام بتواصل ما هو ليس متصلا في الواقع، الكاميرا تتحرك بنعومة ودون قطع تنتقل من مكان لآخر بصورة توحي بأن الفيلم قد صُوّر في لقطة واحدة طويلة، لكنه بالطبع ليس كذلك، فالقفزات الزمنية موجودة وملحوظة، أي أنه يسرد بطريقة القطع دون استخدام القطع، وهي حيلة قد تكون شكلانية جدا في ظاهرها، لكن جوهرها هو "مسرحة" الشريط الفيلمي، وتحويل مسار عين المشاهد لتتابع الفيلم بصورة أقرب لطريقة الرصد المسرحي منها لشكل مشاهدة الفيلم السينمائي العادي.



السيناريو أيضا سيناريو مبني على قالب كلاسيكي، حكاية تبدأ من نقطة هجوم مثالية عن نجم أفلام الكوميكس القديم، الذي ترك السلسلة في أوج مجده بحثا عن مجد فني لم يتحقق، يخوض مغامرته الأخيرة لتقديم عرض مسرحي في برودواي من تأليفه وإخراجه وبطولته، وتتشابك رحلته وشعوره المتأرجح بين الندم والإصرار على صحة القرار، مع رحلات موازية لشخصيات تحيط به في إطار مصنع إعداد المسرحية التي توشك على الانطلاق.


صحيح أن إيناريتو يطعم السيناريو بخط خوارقي لا يحسم أبدا إذا ما كان حقيقة أم مجرد أوهام في ذهن البطل، كصوت شخصية الرجل الطائر الذي يطارده في كل لحظة ضعف ويذكره بما تخلى عنه. الخط الخوارقي هو امتلاكه القدرة على تحريك الأشياء عن بعد وأحيانا الطيران (وإن ثبت بالفعل أن الأخيرة مجرد وهم). صحيح أن هذا الخط الخوارقي موجود، ويبدو أنه أصبح طابعا يريد إيناريتو أن يشكل علاقة شخصياته بالواقع (ولنتذكر قدرات بطل فيلمه السابق "بيوتيفول"). إلا أن هذا الخط لا يقوم بأكثر من إضفاء بعد أسطوري على حكاية تمثل في مستواها الواقعي نموذجا مثاليا للدراما الكلاسيكية الممتازة.



السيناريو كلاسيكي ممتاز، والشق الخوارقي يمنحه بعدا أعمق، والقرار الإخراجي البصري يحلق به بعيدا جدا عما كان سيؤول إليه لو تم تنفيذه بشكل اعتيادي. هذه في نظري صورة مثالية لصناعة عمل سينمائي عظيم، أن يكون كل من عناصره المكونة متميزا في شكله المنفرد، لكن اجتماع هذه العناصر يعطي ناتجا نهائيا أكبر من قيمة كل منها على حدة، أي أن الفيلم العظيم هو ما يجعل 1+1 يساوي ما هو أكبر بكثير من اثنين.


صراع الصناعة والتكنولوجيا


الشق الأمتع في الفيلم هو علاقة البطل ريجان طومسون مع السياق الذي يعمل فيه كممثل سينمائي، وبالتحديد مع مقاييس الصناعة وعالم التكنولوجيا الحديثة. فصراع ريجان مع قراره بالتوقف عن تقديم شخصية بيردمان، بين الندم والإصرار على النجاح بعيدا عن دور الرجل الخارق، هو في الواقع صراع مع شكل الصناعة الذي يجعل فيلما خفيفا يحقق نجاحا وشهرة وجماهيرية أضعاف ما يحققها أي عمل جاد، أي أنه صراع مع النفس لكن دوافعه سياق خارجي.



هذا الشق دعمه الاختيار فائق الذكاء لمايكل كيتون للعب دور البطولة (والذي قدمه بإجادة تستحق الأوسكار بجدارة). فكيتون بالنسبة للكثيرين وبالرغم من مشواره الكبير، لا يزال هو الممثل الذي لعب بطولة أول فيلمين من سلسلة الرجل الوطواط الشهيرة، أي أنه نفسه انعكاس ما لصراع البطل، وهو اختيار مقارب جدا لما فعله المخرج الإسرائيلي الموهوب آري فولمان مع الممثلة روبن رايت في "المؤتمر" "The Congress"، مع خلاف جوهري هو أن روبن رايت ممثلة موهوبة بالفعل تعاني من سوء الاختيار بمعايير الصناعة، أما ريجان طومسون فهو ممثل متوسط الموهبة، اختار أن ينحاز لتقديره لذاته وليس لتقدير العالم له.


صراع طومسون في الماضي ينعكس مع علاقته بالحاضر، وبالتحديد مع التكنولوجيا الحديثة، مواقع التواصل الاجتماعي وطرق الترويج التي أصبحت شائعة وضرورية لأي عمل فني. طومسون يصف كل هذا بالركاكة وعدم الضرورية. الوصف الذي قد نتفق نسبيا مع شقه الأول، لكن الواقع وأحداث الفيلم نفسها تثبت خطأ شقه الثاني، فمن يرفض التواجد في هذه المساحة الافتراضية ـ على عيوبها وركاكتها ـ هو في الواقع شخص "غير موجود" كما تصف ابنة طومسون والدها خلال شجار بينهما. وهو مجددا طرح مقارب جدا لما قدمه فولمان في "المؤتمر"، مع فارق بالطبع في الأسلوب والاستنتاج النهائي للتعامل مع هذا الطرح.



فالحقيقة أن إيناريتو كعادته سوداوي المزاج، يجيد التلاعب بنفوس أبطاله وسحقهم أمام قوى أكبر بكثير منهم، ولا يوجد ما هو أكثر إيلاما من مصير ريجان طومسون الذي يقدم على فعل جنوني على خشبة المسرح، فيكون ما يعلي من شأنه ويرفع شعبيته في النهاية ليس أداؤه المسرحي المتطرف حتى وإن مدحته الصحف، ولكن مجرد فيديو ساذج تعرض فيه لموقف سخيف خارج أبواب المسرح. 


وكأنها لعنة أبدية صار من الضروري على من يعمل في صناعة الفن والترفيه أن يتصالح معها: مهما كان عملك قيما، ومهما بلغت درجة تضحيتك، فإن الجمهور سيهتم بما هو أكثر تفاهة وسطحية، وهو ما يحيلنا مرة جديدة وبذكاء كبير إلى السؤال الأزلي: هل كان على ريجان أن يواصل كونه بيردمان الناجح؟ أم يختار الانحياز لموهبته ليصير في النهاية بيردمان الفاشل؟!