التوقيت الإثنين، 23 ديسمبر 2024
التوقيت 12:26 ص , بتوقيت القاهرة

رغبات قاتلة (2)

أول ما طلع مصطلح "العولمة" ده، كنا في الجامعة. وواحد صديق سألني: إيه حكاية العولمة دي؟ وعلى قد فهمي قعدت أتكلم عن المعلوماتية، والسموات المفتوحة، والمالتي ناشيونالز، وأستشهد بـ كتابات نبيل علي ورواية "شرف" بتاعة صنع الله إبراهيم، ومقال هنا ولا هناك.


المهم، مش هـ أطول عليك، بعد ما نتعت ساعة إلا ربع كلام، راح ساءلني السؤال اللي يقطم: أيوة، يعني هي العولمة دي كويسة ولا وحشة؟


ودي تاني رغبة من رغبات المصريين القاتلة في تعاملهم مع الأحداث المحيطة، إننا دايما عايزين الموضوع ينتهي بـ حكم نهائي، حكم أخلاقي بات لا نقض فيه ولا إبرام، ده كويس ولا وحش؟ حلال ولا حرام؟ معانا ولا مع التانيين؟ ودايما في الآخر فيه سؤال إجابته بـ نعم أو بـ لا.


الرغبة دي ليها مصادر، أهمها غالبية النسخ المتوفرة من الإسلام، من أول نسخة داعش لـ حد نسخة معز مسعود ومصطفى حسني، بل ونسخة عباس الضو في "المال والبنون"، النسخ دي بـ تشترك في إنها بـ تحصر فلسفة الحياة بـ أكملها في إنها ممر يودينا للجنة والنعيم الأبدي أو للنار والعذاب المقيم. وبالتالي، الناس نوعين: على حق وعلى باطل. والأفعال نوعين: حلال وحرام. والأفكار نوعين: صح وغلط، والمسئولين نوعين: كويس ووحش. وكل حاجة في الدنيا يا أبيض يا إسود.


النزعة الدينية دي بـ تغذيها كافة أنواع الخطاب، في الفن مثلا من أيام ما كانت ليلى مراد الله يرحمها في فريق الطيبين الكويسين، وفريد شوقي مع العصابة اللي لابسة تي شيرتات مخططة، وتبقى إنت يا إما مع ليلى مراد يا إما مع العصابة. وفي السياسة كذلك، تستغرب لما تلاقي ساسة مخضرمين، وبعضهم له إسهامات دولية، ويتكلم برضه بـ صيغة الحق والباطل، حتى في الثقافة يا راجل، ممكن تلاقي ناس عندها حوالين قصيدة النثر، فـ يتعاملوا برضه بـ منطق مين اللي عنده حق، والمفروض نكتب نثر ولا تفعيلة، ونلتزم بـ القافية ولا نلغيها؟


التفكير ده بـ يحرمنا من حاجات أهمها نعمة التحليل، وطول النظر، والإبداع، وعايز أحيلك على صلح الحديبية، لما النبي عمل الاتفاقية مع سادات قريش، وكان فيها "تنازلات" واضحة، و"اعترافات" ضمنية بـ أحقية حكومة قريش في حاجات، كان النضال الأساسي لـ دولة الإسلام الناشئة ضدها.


وقتها عمر بن الخطاب فكر بـ طريقة العولمة كويسة ولا وحشة، فـ سأل النبي وبعدين سأل أبو بكر: "ألسنا على حق وهم على باطل؟ أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ ففيم نعطى الدنية في ديننا؟" وفيه روايات بـ توصل بـ عمر إنه شكك وقتها حتى في نبوة النبي!


تخيل بقى لو كان النبي فكر بـ المنطق ده، ودخل الحرب دي، كان ممكن الليلة كلها تنفض، لكن لأن النبي عارف كويس اللي فيها، والرؤية عنده أوسع بـ كتير عمل الاتفاقية اللي مكنت المسلمين بعد كده من دخول مكة دخول نضيف، مهد لـ عمر نفسه إنه يكون على راس الدولة دي، ويتأمر على أبو سفيان شخصيا.


مش بس الأسباب التكتيكية والبراجماتية هي اللي تفرض علينا التقليل من سيطرة فكرة الحق/ الباطل على تصرفاتنا وتحركاتنا، ده كمان مفيش إبداع ولا تعددية ولا حتى تداول سلطات هـ يحصل من غير ما نوقف، كلنا، النمط ده من التفكير. النمط اللي بـ يحصرك جوه جماعتك الصغيرة: شلتك، مؤسستك، قبيلتك، تنظيمك، حزبك، اتجاهك الفكري، ناديك، شبكة مصالحك، شغلتك، فرقتك جوه شغلتك، وأحيانا التلاتين الأربعين اللي بـ يعملوا لك لايك على فيسبوك، أو ريتويت على تويتر.


بمناسبة فيسبوك وتويتر، فالرغبة القاتلة اللي جاية هي ........


 


استنونا.