التوقيت الجمعة، 22 نوفمبر 2024
التوقيت 10:44 م , بتوقيت القاهرة

آخر نفس في صدر صديقي

<p>طالما أثارت إعجابي الطريقة التي يبذل بها جهده لتعليم طلابه، حتى وإن كان بعضهم لا أمل فيه. كنت واحدة من هؤلاء الطلاب لكنني تحسّنت، إذ إن اللغة العربية اكتسبت معه قبسًا من السحر غير معهود.</p><p>لا يُفارقني صوته الساخر وهو يفند فكرة عجيبة لأحد طلبته، والذين هم أصدقاؤه أيضًا، ونقاشه المنطقي المتسلسل الذي لا عوج فيه، والطريقة التي يرشف بها الشاي في جلساتنا، وصورته القديمة وهو بدين وبنظارة طبية تخلّص منها بعد عملية ليزك، والحاسوب المحمول الذي لا يُغلق إلا نادرًا ولا يفارقه أبدًا. طالما حيرني اطلاعه على الأحداث الجارية أولًا بأول، ومعرفته الموسوعية بالتاريخ، والتي تجعلني أتساءل عن الوقت الذي قضاه في القراءة، وكيف تعلّم كل هذا الذي يعلمه؟!</p><p>أكثر ما قدَّرته فيه هو وجهة نظره المختلفة على طول الخط، لكنّها تحمل دائمًا لمحة منطقية بديهية تجعلني أتساءل: كيف لم ألحظ هذا من قبل؟! وكثيرًا ما شعرت بالغيرة من "صياغته على النسق" التي تجعلني أكتشف كمَّ ثراء النص الأصلي الذي استخدمه، وغفلت أنا – كالملايين – عنه.</p><p>لم يغظني فيه شيء قط إلا فخره بكونه "رخم"، واستخدامه للقب بشكل أثار حفيظة احترامي الشديد له، قبل أن أستسلم لهذه الحقيقة العلمية الأكثر ثباتًا من حقيقة دوران الأرض حول الشمس.</p><p>أذكر صوت قرآن ما قبل المغرب وهو يترقب كوب الماء في رمضان، وعبارته التي تغيظ لدرجة الألم وتؤلم إلى حد التمزق: "البلد دي زي أمك، ينفع تسيبي أمك لو مريضة وتمشي؟"، فأجيبه: "لو كانت مريضة وغبية وعاجبها الخضوع للمرض رغم وجود الخلاص يبقى تولع"، فيجيبني بابتسامة عجيبة، ونظرة أعجب، وعبارة نسيتها تمامًا لكنها أخرستني أيامًا.</p><p>أكَّد لي مرارًا: "أنا هفضل في البلد دي لآخر حياتي، وهفضل أحبها لآخر نفس"، وهو ما أغاظني وآلمني، وأشعرني بأني حمقاء وجبانة، إذ أجاهد لأتخلص من أغلال هذا الحب وأرحل تاركة كل شيء.</p><p>في الثمانية عشر يومًا الأسطوريين، كنا نفترش أرض الميدان في عز البرد، وهو يلقي أبيات الشعر لتشجيعنا، وكلنا يتأهب لاقتحام الميدان علينا، ويتوقع أن يموت شر ميتة، لكنّه ردد علينا: "فمن العجز أن تموت جبانًا". </p><p>كاميرته تسجل كل لحظة نعيشها، ثم تأتيه رصاصة طائشة في موقعة الجمل فلا يشعر بالإصابة إلا بعد دقائق، ويرحل حتى لا يكون عبئًا على باقي المقاتلين، ثم يتحمل الألم أيامًا، ويتصرف بطريقة طبيعية كي لا تعرف أسرته بما أصابه.</p><p>أراقب التزامه الميدان في كل حدث، وثورته على الخانعين والأغبياء وتجار الدين، ومحاولاته للشرح والتوضيح دون كَلال أو مَلال مع عشرات الحمقى، ومجادلاته التي لا تتوقف ولا تنتهي إلا لصالحه، ويأس المتعصبين منه، وتجنبهم إياه كيلا يصبحوا في نصف ملابسهم على الملأ.</p><p>ثباته في عز تقهقر الصفوف الأولى لمقاتلي محمد محمود، وصياحه بأن أذهب مع صديقة أخرى إلى المنزل فورًا، وتجاهله لطلبي بأن يعود معنا.. كنت راغبة في البقاء، لكني خائفة من الموت كل الخوف، ولكنني كنت على استعداد للتقدم والموت إذا تراجع هو؛ لم أخبره بأنه يملك من العلم ما سيفتقده الكثيرون، أما أنا فلا أملك شيئًا يفتقده أحد، ولن يكون موتي خسارة كبيرة لأحد.. كل الكلمات توقفت في حلقي والموت يحلق حولنا، حتى أعادني مع صديقتي إلى أقرب محطة مترو، وعاد إلى المعركة ليتقدم الصفوف الأمامية، ويفقد الوعي مرارًا بفعل الاختناق والسم الذي حاربتنا به حكومة قذرة، ولم تشهره في وجوه الأعداء، ثم عادت النظارة الطبية تعلو وجهه بعدما دمر الغاز أثر عملية الليزك وأضعف بصره أكثر من ذي قبل. </p><p>له ابتسامة ساخرة قليلًا، وتحية معتادة: "إزيك يا فندم؟"، وكلمة باترة "رخمة" ينهي بها أي نقاش: "حاضر".</p><p><span style="color: rgb(255, 0, 0);">تمر أعوام ثلاثة..</span></p><p>ثم نتفق على إفطارنا السنوي المعتاد في رمضان، فتحتضننا شوارع وسط البلد الخالية، وتضمنا في هدوء حميم بعيدًا عن زحام المطاعم.. نجول باحثين عن مقهى والثرثرة تسرق تركيزنا، ثم يسخر من إشفاقي على كلب يشعر بالعطش ويسألني ضاحكًا: "طب وأنا؟"، ويصغي إلى حديثي عن المستقبل، وتنهيدتي: "عايزة أروح اليابان"، ثم يجيبني: "وأنا عايز أروح بلد تانية"، فتفاجئني العبارة بألم غير متوقع، وشعور كمن انكشف ظهره في حرب طاحنة.</p><p>أسأله: "قلت إنك هتفضل هنا لآخر نفس؟"، فتأتي إجابته الهادئة مصحوبة بضحكة: "ما خلاص آخر نفس طلع".</p><p>لا يزال يضحك، لا يزال يعتز برخامته، لا يزال يعلمني جديدًا كلما فتح فاه، ولا يزال يرى أنه ثورجي "نص كم" خرج بعد أول رصاصة، لكنه أيضًا يظل من أفضل أبناء هذا البلد.</p><p>هذا الرجل أستاذي، وصديقي، وواحد من أفضل أبناء مصر الذين سيذهبون بلا عودة.</p>