قطعة حلوى يستحيل مقاومتها في The Grand Budapest Hotel
قرب نهاية فيلم "فندق بودابست الكبير" The Grand Budapest Hotel للمخرج ويس أندرسون، يوجد مشهد مطاردة يُلخص إلى حدٍ كبير علاقتي بأغلب أفلامه. التمهيد والتحضير المُتقنان، في بداية المشهد، يوحيان للمتفرج أنه بصدد مشاهدة مطاردة كوميدية هزْليّة على زحافات جليدية، على طريقة أفلام الكارتون، سيضحك فيها حتى الثُمالة. لكن بعد أقل من دقيقة تنتهي المطاردة كلها سريعا، تاركة قدرا ما مِن الإحباط، لأن هذه البداية الماهرة الواعدة التي تعشّم بالكثير والكثير، لم ينتج عنها في النهاية إشباعٌ حقيقي.
أغلب أفلام أندرسون السابقة لها نفس الصدى تقريبا. وأقرب ما تكون إلى المُشهيات التي تجعل لعاب المتفرج يسيل طول الوقت، دون الوصول نهائيا للوجبة الرئيسية. أفلامه هزْليّة لكن غير مُضحكة بالدرجة الكافية. مُبتكرة لكن دون هدف حقيقي. مُتقنة لكن دون اندماج عاطفي بأغلب الأحداث. وكل فيلم فيهم على جودته وأهميته، سجين إحساس مخرجه الدائم بالفخر وثقته في مهاراته وألاعيبه البصرية، التي لا يكف لحظة عن استعراضها على الشاشة.
زيرو مصطفى، صبي مهاجر ينتقل للعمل في بهو فندق فخم، ليتورط في مغامرة جنونية مرحة مع رئيسه في العمل جوستاف (رالف فاينس)، بعد اتهام الأخير بالمسؤولية عن جريمة قتل. رحلتهما للهروب من الشرطة، وإثبات التهمة على الجاني الحقيقي، ستشهد العديد من المفاجآت، في ظل أجواء مأساوية تسيطر على أوروبا مع مواجهات الحرب العالمية الثانية.
جوني ديب كان مُرشح أندرسون الأول لدور جوستاف وهو يكتب القصة، ومن السهل ملاحظة مدى تناغم الشخصية مع كثيرٍ من عناصر نجوميته (غريب الأطوار الذي يمزج بين الهزل والجد باستمرار - زير النساء - الصديق المخلص.. إلخ). رالف فاينس يؤدي الدور بكفاءة عالية، ويوفر للفيلم مذاقا طازج نسبيا بالنظر لتاريخه كممثل درامي بعيد عن الكوميديا عادة، لكن بكل تأكيد نجومية جوني ديب، كانت كفيلة بضمان إيرادات وشهرة أكبر للفيلم. على كلٍ يبدو أن القرصان جاك سبيرو فقد مؤخرا نسبيا بوصلته في اختيار الأفلام الأهم.
بالإضافة إلى فاينس سيفاجئك الفيلم بعدد كبير من النجوم في أدوار صغيرة، مع منافسة حامية مستمرة بينهم على لقب (صاحب أغرب شنب)!
الطابع العبثي شبه الكارتوني موجود في أغلب المشاهد، ويتمتع الفيلم بكل الألاعيب البصرية المعتادة لأعمال أندرسون. الألوان الزاهية والتناسق السيمتري بين نصفى الصورة موجود في كل كادر تقريبا. ومن وقت لآخر يحرص أندرسون على وضع إطار أو خلفية أو قطع ديكور في الكادر، لتلاحظ هذا البُعد الجمالي، وتشاركه الهوس الدائم بالسيمترية!
أبعاد الصورة (نسبة الطول إلى العرض) تتبدل باستمرار طوال الفيلم بين 3 نسب، ليصبح لكل مرحلة زمنية نسبتها الخاصة. أحداث الثلاثينات هي الأطول زمنيا، واستُخدم فيها نسبة (1.37 : 1) وهي نسبة عتيقة توشك أن تنقرض حاليا، لكنّها توفر شكلا عتيقا - Retro - يتناسب مع سينما الثلاثينات، بالإضافة لكونها مصدر غرابة ودهشة في حد ذاتها بالنسبة للمتفرج المعاصر.
تأثُّر أندرسون بالشكل السينمائي العتيق يمتد لعناصر وتفاصيل فنية أخرى. الموسيقى التصويرية لـ إلكسندر ديسبلات مثلا، أقرب ما تكون إلى موسيقى عصر السينما الصامتة. بعض مشاهد الفيلم بالأبيض والأسود. المؤثرات الصوتية أيضا يعود بعضها للطابع العتيق، وهو ما يتضح في أصوات مشاهد الشجار واللكمات وطلقات المسدسات بالأخص.
جماليا كل كادر في الفيلم يصلح كلوحة وحده، وأغلب عناصره على درجة عالية من الإتقان، ولا عجب في اكتساحه الأوسكار بـ 9 ترشيحات كأفضل (فيلم - إخراج - سيناريو - تصوير - مونتاج - موسيقى تصويرية - ماكياج - تصميم إنتاج - ملابس). رغم هذا لا أرى بالمناسبة فرص فوز كبيرة إلا في آخر 2 أو 3 على الأكثر.
السؤال إذا: هل الجمال البصري كافٍ للتجاوز عن كل شىء آخر؟
في أحد مشاهد الفيلم الجميلة يفحص حارس سجون قاسٍ كل قطع الطعام قبل دخولها للمساجين، بطعنها وتمزيقها للتأكد من خلوها من أي ممنوعات. أثناء الفحص تقابله قطعة حلوى مزينة بدرجة أناقة وحرص، تجعلها أقرب إلى تحفة فنية. بعد نظرة فاحصة لا يطاوعه قلبه على كسر القطعة من فرط جمالها، ويسمح بمرورها بدون طعن أو تمزيق.
هذا تحديدا ما فعله أندرسون بنا!.. الفيلم أيضا على درجة من الجمال البصري والفتنة، تُعادل في التأثير قطعة الحلوى. وشبه مستحيل أن يطاوعك قلبك وبصرك على طعنه مهما كانت قسوتك!
إجمالا الفيلم في النهاية طبق مشهيات آخر، ويوما ما سيفاجئنا أندرسون بالوجبة الدسمة الرئيسية. السؤال ليس هل سيصنع هذا الفيلم أم لا؟ السؤال فقط متى سيصنعه؟
باختصار:
رغم وجود العيوب المعتادة في أعماله، يقدم المخرج ويس أندرسون هنا لزائر الفندق مستوى خدمة أكثر إتقانا من كل ما سبق، مع درجة جمال بصري يستحيل مقاومة لذتها. أيا كانت درجة عزيمتك، ستستسلم غالبا لقطعة الحلوى هذه المرة!