التوقيت الإثنين، 23 ديسمبر 2024
التوقيت 12:50 م , بتوقيت القاهرة

قصة مارتن لوثر كينج المهمة لم تصنع فيلما مهما في Selma

من الناحية النظرية يملك فيلم  سلما Selma  كمشروع كل مقومات النجاح فنيا وتجاريا. شخصية لها شهرتها في التاريخ الأمريكي الحديث (مارتن لوثر كينج). ومحطة من المحطات المهمة في تاريخ حركة الحقوق المدنية في الستينات، وفي تاريخ أمريكا وأصحاب العرق الأسود بالأخص. عندما قام كينج بقيادة آخرين في مسيرة من مدينة "سلما" إلى "مونتجومري" عام 1965، للمطالبة بحق السود في الحصول على بطاقة التصويت الانتخابي، رغم رفض السلطات وقمعها. وموعد عرض أمريكي مثالي للفيلم في يناير 2015  ليواكب الذكرى الـ 50  للأحداث، ويوم الاحتفال السنوي بـ كينج.


لماذا لم يرقَ الفيلم في النهاية إلى المستوى المطلوب، رغم كل هذا التضخيم والتمهيد الإعلامي؟
الإجابة هي نفسها الفقرة السابقة. لأن صناع الفيلم باختصار، وعلى رأسهم مخرجته "آفا دوفييرني"، افترضوا مسبقا أن العمل مهم تلقائيا، لمجرد أن أصل القصة مهم. وبدلا من صياغة القصة في فيلم درامي مسلي ومؤثر فعلا، انتهوا بصياغة تفخيم وتعظيم عقيمة للحدث وكينج، جعلت الفيلم أقرب إلى خطبة سياسية أو حقوقية مملة، منه إلى فيلم سينما جيد.

 



 


النموذج الجيد الذي يحضرني هنا للمقارنة هو فيلم المخرج ستيفن سبيلبرج الأخير لنكولن Lincoln. عناصر التشابة كثيرة. فيلم سبيلبرج يقتبس أيضا حدثا واحدا رئيسيا في حياة الرئيس الأمريكي، عندما واجه معضلة الاختيار وسط جحيم الحرب الأهلية الأمريكية عام 1865، بين تعديل الدستور الأمريكي وإلغاء العبودية، أو عدم إلغائها في سبيل إنهاء الحرب نفسها. كلا الفيلمين يستعرض حدثا واحدا كبيرا في حياة شخصيات مهمة تاريخيا. وفي كلاهما يتعلق تأثير الحدث مباشرة بالعرق الأسود. لكن في النهاية آفا دوفييرني ليست سبليبرج، وديفيد أويليو ليس دانيال دي لويس، وهو ما جعل في النهاية فيلم Selma لا يرقى نهائيا لـ Lincoln.


على ضوء مشاهدة سريعة لبعض خطب مارتن لوثر كينج الأصلية، لم أرَ في أويليو نفس الكاريزما أو الحضور. أداؤه للدور مقبول عامة، بالنظر لسخافة السيناريو وطبيعته الخطابية المباشرة في كثيرٍ من المقاطع والحوارات، لكنّه في الحقيقة كممثل، تائه في بعض المشاهد، وأتعجب من غضب البعض من عدم ترشيحه لأوسكار أفضل ممثل عن الدور، في عام مزدحم بأداء تمثيلي متميز من عديدين، تم فيه مثلا استبعاد جيك جيلنهال في Nightcrawler وماثيو ماكونهي في Interstellar  لصالح آخرين. لكن في النهاية لن يتهمك أحد من جمهور جيك جيلنهال أو ماثيو ماكونهي بالعنصرية إذا قلت إن هناك من هو أفضل. وكلاهما يؤدي دورا روائيا لا يمنحه نقطة سبق إعلامي على منافسيه.



النظرة التفخيمية تمتد لتصبغ الفيلم بنظرة سطحية للشخصيات البيضاء الكارهة لفكرة السماح للسود بالتصويت. الفيلم يقدمهم بنفس معاييرنا ونظرتنا في 2015 كشخصيات عدوانية مريضة شريرة، عنيفة عموما مع الآخرين. لكنه يتناسى - عمدا غالبا - أن هذه الشخصيات هي في النهاية حصاد زمن وثقافة، كانت لا تزال تنظر للعِرق الأسود باعتباره عبد الأمس، وترى خطورة في فكرة السماح له بالمشاركة في القرار السياسي، تمامًا مثلما كان أغلب البشر على سطح الأرض مثلا من ألف عام، لا يرى في العبودية نفسها عموما مشكلة أو أزمة أخلاقية من أي نوع. وهو ما سنعتبره بمعاييرنا الحالية (جريمة أخلاقية). هؤلاء لم يكونوا وحوشا أو مختلين ذهنيا. 


وفي محاولة لتبجيل (مارتن لوثر كينج) أكثر وأكثر، يلجأ الفيلم إلى أسلوب رخيص بالتقليل من شأن الآخرين، وعلى رأسهم الرئيس الأمريكي جونسون، الذي يقدمه الفيلم كشخص ضعيف متردد باستمرار في اتخاذ القرارات الحاسمة، مقارنة بـ كينج. الزوجة أيضا تم تهميشها لتقدم فقط مشاهد الأنثى الجميلة التي لا تفعل شيئا مهما طوال الأحداث، باستثناء القلق على زوجها. ولاحظ هنا أن مخرجة الفيلم (أنثى) وهو ما يفترض أن يترك تأثير معاكس. على كل قد تكون هذه حقيقة الشخصية الفعلية تاريخيا، لكن لا يوجد داعي لتكرار نفس المشاهد والحوارات بين الزوجين عدة مرات بشكل ممل.



تظل مشاهد المواجهة الدامية مع قوات الأمن على سطح الجسر جيدة، وبها جهد واضح في المونتاج، وتكاد تكون لمسة الجودة الوحيدة في إخراج "آفا دوفييرني" وفي الفيلم عامة، بالإضافة إلى إتقان يستحق الثناء في تصميم الملابس والديكورات، لاستحضار روح الستينات. فيما عدا ذلك، يظل الفيلم طوال الوقت ضحية سيناريو خطابي ممل، ومشاهد ميلودراما متوسطة.


النقطة الجديرة بالذكر هنا، أن أفضل أفلام تم صناعتها عن قضايا السود، تتعلق دائما بقصص بسيطة لأناس عاديين، ومنها مثلا فيلم سبيلبرج "اللون قرمزي" أو The Color Purple  إنتاج 1985  و "12 سنة من العبودية" أو 12 Years a Slave إنتاج 2013. في كلا العملين تأخذنا القصة لنتعاطف مع بشر عاديين، كان لون بشرتهم سبب مأساتهم، بدون خطب حقوقية وإنسانية زاعقة، وهو ما لم يحدث هنا.



جذور المشكلة الأساسية في Selma  هو أنه في النهاية من إخراج أنثى سوداء لها أنشطة حقوقية، عن محطة في حياة أشهر حقوقي وناشط أسود في الستينيات، وهو ما يجعل تجنب هذا المصير الخطابي في الفيلم مهمة صعبة تحتاج إلى فنان حقيقي. تزداد الأزمة في مرحلة زمنية سينمائية وإعلامية حالية، يصعب معها أن تصف أي عمل عن قضايا السود، بالسوء أو تواضع المستوى، دون أن تنالك اتهامات بالعنصرية.


اختلاف الآراء فنيا وارد، لكن ببساطة هذا هو الفيلم الأضعف ضمن الـ 8 المرشحين لأوسكار أفضل فيلم، ووجوده ضمنهم متفوقا على أعمال مثل Foxcatcher - Nightcrawler - Interstellar  لا تفسير له سوى محور قضيته. وكل الادعاءات المتكررة بخصوص جودته سينمائيا، لا أرى فيها إلا مجرد ابتزاز إعلامي مبني على سهولة مهاجمة الرافضين لتصنيفه كعمل جيد، بتهمة مُعلبة جاهزة هى العنصرية.


في عالم مثالي سيشاهد الكل الفيلم، ويقارنه بغيره ليقرر في النهاية استحقاقه لجوائز (سينمائية) أم لا، بدون النظر للون بشرة مخرجته، أو لأهمية شخصياته تاريخيا. في عالمنا الحالي ستجد من يكتب (الأكاديمية أضاعت الفرصة في ترشيح أول مخرجة سمراء لأوسكار أفضل إخراج في  2015)، أو (كل الممثلين والممثلات المرشحين لأوسكار 2015 أصحاب بشرة بيضاء ولا يوجد أسود واحد)، وهي عبارات لا أرى فيها إلا قمة العنصرية!


?


كونك أسود البشرة أو أنثى، لا يجعلك صاحب أولوية فنيا من غيرك. وإذا كان البعض يرى أنه لابد من وجود حد أدنى من الفنانين السود في قوائم الجوائز سنويا، بغض النظر عن وجود تميز منهم أو عدمه، فليطالب إذا علنا بكوتة سنوية، لأن هذا هو الوصف الأدق لما يطلبه. ربما يجب على الفنانين ذوي البشرة البيضاء حاليا تنظيم حملة احتجاج للاعتراض على هذا الابتزاز السخيف الإعلامي العنصري المتكرر سنويا! 


بقي أن أذكر أن الجمهور الأمريكي كان موقفه من الفيلم أكثر عدالة من موقف الأكاديمية، التي رشحت هذا الفيلم المتواضع لأوسكار أفضل فيلم، ولم تنجح كل محاولات صناع Selma  في استثمار عام الذكرى الـ 50  للأحداث، واليوم السنوي المسمى إعلاميا بـ "يوم مارتن لوثر كينج"، لتسويق الفيلم تجاريا بشكل جيد.


الجمهور تجاهل الفيلم، وأقبل بحماس على  American Sniper وهو فيلم أكثر جودة بمراحل، ومتهم حاليا أيضا بالعنصرية!



 

 

باختصار:
حدث تاريخي أمريكي مهم، تم صياغته في فيلم متوسط قلبا وقالبا، يستحق بجدارة التواجد في قائمة (أسوأ أفلام تم ترشيحها لأوسكار أفضل فيلم). قد يكون أقل مللا نسبيا من حصص التاريخ المدرسية، إذا كنت ترغب في معرفة بعض تفاصيل الحدث. الدرس المستفاد؟.. إذا كنت فنانا متوسط المستوى، لا تتردد في صناعة عمل عن قضايا السود، لأن الغالبية ستصبح مُجبرة على تصنيفه كعمل جيد للهروب من الاتهام بالعنصرية. سيفيدك أيضًا في هذه الحالة جدا، أن تكون أسود البشرة.