صيد النجاح بأي ثمن في Foxcatcher
مصطلح Foxcatcher يُمكن ترجمته لـ (صائد الثعالب)، لكنّه هنا يشير إلى اسم مزرعة حقيقية في بنسلفانيا، مملوكة لأحد أكثر العائلات الأمريكية ثراءً، وهى عائلة "دو بونت". سبب التسمية يعود لرياضة غريبة كانت تُمارس هناك قديما، يطارد فيها الأغنياء على خيولهم، الثعالب لقنصها.
لماذا الثعالب بدلا من الغزلان أو الطيور أو أي كائن آخر صالح للأكل، يتم اصطياده عادة؟.. الإجابة سهلة. لأن الأثرياء للغاية يطمعون أحيانا لصيد شيء أكثر ندرة وتميزا، وممارسة نشاط مُكلف شديد الاختلاف عن الأغلبية، يشعرهم بالسطوة والأهمية. لأن ذلك ببساطة هو الفرق بين الثري جدا والشخص العادي.
جون دو بونت بطل قصة الفيلم الحقيقية التي بدأت أحداثها منتصف الثمانينات - الذي يقوم بدوره هنا ستيف كاريل في دور ممتاز يغير فيه شكله، ومعاكس تمامًا لتاريخه كنجم كوميدي - لم يهو الفروسية، واهتم بتربية الطيور أكثر من الثعالب، لدرجة تأليفه لعدة كتب عن فصائل الطيور، لكنّه في النهاية ورث شيئا ما من الإرث العائلي الذي أدمن هذه الرياضة. ربما ورث منه أكثر من اللازم. وهو نفس ما ينطبق على روح الفيلم أيضا.
إعلان الفيلم
دو بونت الثري جدا الباحث عن الأهمية والنجاح والاحترام، في مجتمع لم يمنحه فيه المقربون بما فيهم والدته نفسها هذا الإحساس، يمول العديد من المشاريع والرياضيين، ويقرر ضمن أحدها، استعدادا لأوليمبيات 1988، استضافة وتمويل برنامج تدريب المصارع الشاب مارك شولتز (تشانينج تيتوم)، الباحث عن الشهرة والميداليات، والهروب من العيش في ظل شقيقه الأكبر الأشهر منه ديفيد، الذي يفوقه شهرةً في الرياضة.
ديفيد (مارك رافالو) رب الأسرة الأمريكي الذي عاش طفولة صعبة، ينكر ذاته ويسعى وراء الاستقرار والأمان المادي، ليكفل لأسرته وأطفاله حياة كريمة، لم يعرفها هو.
الثلاثة في مطاردة للنجاح والإنجاز بأي ثمن بالمعايير العامة، والأمريكية بالأخص. الأول شخص فارغ بدون إنجازات أو قدرات مميزة، يحاول أن يشتري بالمال احترام وحب الآخرين، والإحساس بالأهمية والنفوذ والسطوة.. الثاني يحاول أن يشتري بالعُزلة والانفصال عن أخيه، والتملق لرئيسه، بطولة رياضية تخلد اسمه يحقق فيها ذاته.. الثالث يضحي بقناعاته واحترامه لنفسه، ويرضى بالتبعية لثري بائس، ليشتري في المقابل مستقبلا أكثر أمانا واحترامًا لأولاده.
كل شخص من الـ 3 يلخص أزمته في 3 مشاهد خاطفة ممتازة يتخللها الفيلم، يقف فيها كل منهم أمام مرآته. الأول يقدم مشهدا يحاول فيه أن يُبهر والدته والآخرين بقدراته المميزة دون جدوى، لأنه لا توجد قدرات من الأصل.. الثاني يستسلم وحيدا ومعزولا لليأس والغضب في غرفة فندق.. الثالث يسجل لقاءً أمام الكاميرا، ينطق فيه بما يعكس بؤسه. المشاهد الثلاثة من أجود المشاهد التمثيلية خلال العام.
المخرج بينيت ميللر شغوف بالقصص الحقيقية لشخصيات أمريكية استثنائية، تحدت كل الظروف والثوابت، سعيا وراء نجاح يعتبره الآخرون مستحيلا. وفي كل قصة يطرح الأحداث بإسقاطات عن الثقافة الأمريكية عموما وتعريفها للتفوق. في فيلميه السابقين كمخرج، وهما Capote عام 2005 مع النجم الراحل "فيليب سيمور هوفمان" في الدور الذي فاز عنه بأوسكار أفضل ممثل، وMoneyball عام 2011 مع النجم "براد بيت" في دور رُشح عنه لجائزة أوسكار كأفضل ممثل، تحدٍ خاص يهواه أيضا، ويتواصل هنا بشكل أكثر قوة في عمله الثالث.
ميلر ببساطة يرى ما لا يراه الغالبية في كل ممثل، ويختار في كل فيلم نجما ليقدم تحديدا ما يخالف تاريخه 180 درجة، وهو ما يفعله هنا مرتين في فيلم واحد. التميز في الأداء الدرامي التراجيدي ليس مفاجأة بكل تأكيد من مارك رافالو، وهو هنا الوحيد الذي يقدم دورا مقاربا لتاريخه الفني. لكن الغرابة تنبع من زميليه.
ستيف كاريل يبدو اختيارا غريبا جدا للدور، لكن ما يُميز أي كوميديان هو في النهاية قدرته على تقديم تناقض بين ما هو مألوف ونعرفه، وبين ما هو غير مألوف، لنضحك عليه. كاريل هنا يقدم الوجه الآخر للـ (غير مألوف). الوجه المُقلق الغير كوميدي.
في أحد المشاهد يتحدث دو بونت عن الأسماء والطريقة التي يفضل أن يناديه بها أصدقاؤه، مقترحا ما يقرب من 5 أو 6 ألقاب. هذا شخص تائه لا يعرف حتى ما يريده هو تحديدا. في مشهد آخر يُلقن تلميذه خطبة تحتوي على 3 كلمات متتالية متقاربة نطقا بشكل عبثي شبه كوميدي، لكنّه هنا يثير القلق للمتفرج أكثر من الضحك. في هذه المشاهد وغيرها تتجلى عبقرية اختيار كوميديان للدور.
لم أرَ قط في تشانينج تيتوم على مدار مشواره الفني، إلا ممثلا متواضعا بوجه وسيم وجسم رياضي. وعادة يلعب دور الشاب الذي يثبت بمرور الأحداث، أنه أفضل وأكثر ذكاءً مما يوحي به شكله، مستخدما أحيانا وسامته وقدراته الجسمانية في الإثبات. ستجد هذا في أدوار راقصة ورومانسية مثل Step Up - The Vow - Magic Mike أو أدوار أكشن مثل G.I. Joe - White House Down
ميلر يحافظ على الأهمية الجسمانية للنجم، ويوظفها أيضًا في الدور، لكنّه هنا يجعله يلعب العكس. الشخص الأقل ذكاء مما يوحي به شكله. والأسوأ من هذا، أنه شخص يعرف هذه الحقيقة المؤلمة عن نفسه. لم يفز عن الدور بترشيح أوسكار كزميليه، لكنّه هنا يكتب أخيرا شهادة ميلاده بفضل ميلر كـ (ممثل).
الصورة لا تقل إتقانا وتوظيفا. ديكورات وتحف المنزل الفخم المتزاحمة، والمشاهد الخارجية للمزرعة، تضفي خواءً أكثر وأكثر على الشخصيات والمكان، خاصة بألوانها الباهتة المعدومة الروح. وبينما يلجأ أي مخرج عادة مع مشاهد رياضات المحترفين لتقديم مونتاج سريع وحاد، يمزج لقطات بعيدة لا تكشف وجه الممثل لأنه يستعين ببديل محترف في اللعبة، ولقطات مقربة جدا لوجه الممثل لا تكشف حركة الجسم ككل، يلجأ ميللر للعكس. كاميرا ثابتة ومشاهد طويلة متواصلة، يمارس فيها الأبطال الرياضة فعلا، بطريقة تؤكد بما لا يدع مجالا للشك، أن كلا من مارك رافالو وتشانينج تيتوم، خضعا فعلا لتدريب حقيقي طويل في المصارعة الرومانية.
لمدة طويلة ظلت أفلام وقصص الرياضة والبطولات عادة، مصدر إلهام وإحساس بالانتصار لجمهور السينما، ومن جديد يوظفها ميللر في تراجيديا كئيبة تحقق العكس. ولأن كل شيء عكسي بخصوص الفيلم، فقد حقق إنجازا فريدا جديدا عكسيا أيضا في الأوسكار!.. الفيلم هو الأول الذي ينتزع ترشيح أوسكار لأفضل مخرج، دون الترشيح لأوسكار أفضل فيلم، منذ تعديل قواعد الأكاديمية في 2010 لتسمح بترشيح أكثر من 5 أفلام لأفضل فيلم، على عكس ما توحي به المعادلة نظريا من ضرورة استبعاد مخرجين أفلام، ضمن قائمة الأفلام المرشحة لأفضل فيلم!
الشيء الوحيد الذي منع هذا الفيلم من الوصول للقمة، هو المط في بعض المقاطع. في خلال 5 دقائق فقط في البداية، يختزل السيناريو بفاعلية العلاقة المعقدة بين الأخوين، بفضل تمرين واحد وحوار سريع في سيارة، يلخص كل شيء بخصوصهما. نفس الشىء يحدث في علاقات أخرى مثل علاقة دو بونت بوالدته. من المؤسف جدا أن هذا لم يتواصل على مدار الفيلم.
على كل لا أعرف تحديدا محور الفيلم الرابع القادم لـ ميللر، لكن أعرف شيئين بخصوصه. الأول أنه غالبا سيفاجئنا من جديد بأداء تمثيلي مبهر لنجم ما، في دور يخالف تاريخه، والثاني أن الفيلم سيكون ضمن قائمة انتظاري في عام عرضه.
ماذا عن الفرص مع ترشيحات الأوسكار الـ 5 لأفضل (إخراج - سيناريو أصلي - ممثل لـ ستيف كاريل - ممثل مساعد لـ مارك رافالو - ماكياج)؟.. من وجهة نظري لا ينافس الفيلم بجدية على فوز إلا في (الماكياج) ربما. لكن أمامنا فيلما مميزا بصيد في الأوسكار أو بدون.
باختصار:
تراجيديا سوداوية حقيقية عما يُمكن أن يحدث مع السعي خلف النجاح بأي ثمن وبأي شكل، تم تتويجها بأداء إبداعي لـ 3 ممثلين، وإخراج متقن لـ بينيت ميلر. يستحق المشاهدة لتعرف فقط كيف يمكن لمخرج قدير، أن يصطاد ما لم تتوقعه نهائيًا من ممثل تعرفه.