التجربة البيولوجية
قد لا يكون هناك تصور علمي واضح لكُنْه "الروح" المُنفصلة عن الجسد، وقد لا نجد علمًا تجريبيًا يذكر الروح وخصائصها. لكن ما حاجتنا لذكر الروح خارج نطاق العقائديات، وقد كفل لنا العلم دراسة حالات النفس البشرية والعواطف وربط بينها وبين خصائص الجسد، فأخرج لنا تعريفات لم تكن موجودة من قبل، وليكن أهمها الخصائص النفسجسدية أو psychosomatic، فنحن نعلم الآن أن معظم التجارب الجسدية هي خليط من تجربة جسدية وتجربة شعورية لا ينفصلان.
ولقد تكلمتُ في مقالى السابق عن الحالة الشعورية التي قد يمر بها كلٌ من الزوجة والزوج والجنين أثناء فترة الحمل. وتصورنا سويًا كيف تكون حالة طفلك أو طفلتك الجميلة وهو محاط بكل الحب والاهتمام حتى قبل ما يدرك ما هو الحب وما هو الاهتمام.
بعد نشر مقالي السابق جاء لي أكثر من تعليق أحصرهم في مسألتين:
الأولى: من صديقة أرسلت لي قائلة إنها بكت بعدما قرأت الموضوع لاسترجاعها مشاهد فترة حملها، وتذكُّرها أنها هي وزوجها كانا يطلقان على طفلتهما قبل أن يدركان جنسها لقب "فسفوسة"، ولعلك تذكر أني أطلقت على الجنين لقب "فتفوتة" في مقالي، فتذكرت صديقتي كم كانت فترة حملها غنية بالحب.
الثانية: من صديقة أخرى قالت لي إن الحمل بالنسبة لها لم يكن أكثر من "تجربة بيولوجية"، لا تعلم ما كان يجب أن يكون من حالة نفسية وشعورية فى تلك الفترة. تجربة علمت في أولها بحملها، ثم بعزوفها عن الأكل، ثم غثيان وقيء، ثم بكبر بطنها شيئًا فشيئا، وأثناء ذلك الذهاب للطبيب هي وجنينها وبطنها المنتفخة، ثم الطفل يتحرك داخلها لأن له رجلان ويدان، ثم ألم، ثم عدم راحة، ثم عدم استطاعة النوم، ثم ألم، ثم ألم أكثر، ثم آلام متصلة، ثم مستشفى ومبروك عندك طفل.
لم يكن هناك!
صديقي "عبد الشكور"، الذي رجوته المقال السابق أن يبقى معها، تركها وحيدة. بقيت "شكرية" لا تشعر إلا بجسدها وجسدٍ آخر ينمو في أحشائها، فكانت بالنسبة لها "التجربة البيولوجية".
لذا سيكون كلامي الآن موجهًا لعبد الشكور الذي لابد أن يعي أن دوره أكبر من مجرد بنك لحمضه النووي أو بنك لدفع مصاريف الولادة.
يا صديقي إن دورك لا بد ألا يقل أهمية عن دور "فيكتور أرجويتا" عندما كتب "يوميات أب حامل"" Diary of a pregnant dad”
يتذكر فيكتور كيف كانت محاولاتهما كي تحمل زوجته والتي أخيرًا نجحت بعد عامٍ كامل، حتى جاءت زوجته يومًا لتخبره أنها حامل. ثم بدأ هو دوره كحامل آخر في نفس البيت.
كان يُراقب وزنها لأنه عَلِم من طبيبها أن الوزن الزائد خطر عليها وعلى طفلهما، وعندما لم ينجحا فى منتصف الحمل في المحافظة على وزن مثالي، طلب منها الطبيب نظامًا غذائيا قليل الملح، قليل السكر، قليل النشويات. ثم يذكر لك قائلاً: "لقد اكتشفت أن أسوأ ما يُمكن أن يقوم به الزوج عندما تكون زوجته الحامل ملتزمة بنظام غذائى معين، هو أن يدخل عليها بالوجبات الشهية أو البيتزا وخلافه، ولجعل الحياة أسهل وعدم طهى طعام مرتين، فقررتُ أن ألتزم معها بنفس النظام".
يذكر لك "فيكتور" كيف كان يذهب معها كل مرة للطبيب، فيظل منتبها لكل شيء يقوله وملتزمًا بكل نصيحة ينصحها، ومستمتعًا بكل مرة يرى فيها طفلهما بالموجات فوق الصوتية.
وعندما يصل "فيكتور في "حمله" إلى منتصفه يتذكر نصائح أصدقائه فيقول: "أخبرني كثير من الأصدقاء أن زوجتي ستعاني كثيرًا من الغثيان الصباحي ومن التقلبات المزاجية، لكنّ أحدًا لم يخبرني أبدًا أن زوجتي التي تنام كالملاك الطاهر، ستتحول لتصبح ماكينة "شخير" مع تقدم الحمل. لقد أصبح شخيرها هائلاً بشكل يزعجها هي نفسها ويوقظها من نومها متسائلة: هل كنت أشخر؟.. لا يا حبيبتى، لقد كانت مجرد دراجة بخارية مارة!!"
يذكر لك "فيكتور" كل تفاصيل تجربته ولا يخفيك سرًا عندما ينصحك أن تشتري سدادات للأذن لك، والكثير من الوسادات لزوجتك حتى تستطيع النوم مرتاحة.. آه.. وأن تُعِد أريكة الصالة جيداً لأنك ستحتاجها. لكن احرص أن تكون بجوار زوجتك عندما تستيقظ!
تأتي ساعة ولادة "فيكتور" الذي زاد وزنه كثيرا بالرغم من النظام الغذائي (محتمل تعاطفًا مع زوجته الزائدة في الوزن الآن)، ويتذكر مدى صعوبة تلك اللحظة عليه، حيث شخصان ينبغي أن يرعاهما دون أدنى استطاعة منه لجعل الأمور تمر أسهل. ثم يقل لك: "طالما أنك لست طبيب النساء الخاص بزوجتك، فجل ما تستطيع فعله هو تقديم الدعم لها. كنت معها رغم نصيحة الطبيب بعدم فعل ذلك".
أترك "فيكتور لأتذكر قصة أخرى حقيقية، عندما كانت زوجة في مخاضها تجاهد نفسها كي تدفع بطفلها في ولادة طبيعية، وتفشل لإجهادها طوال اثنتي عشرة ساعة مضت، فيمسكها من يدها ويقلد معها صوت نفسها أثناء دفع الطفل (الحزقة)، ويكرر ذلك مرات عديدة حتى يصير في الغرفة زوجان حاملان يدفعان بطفلهما إلى الحياة، وينظر فإذا بالممرضات مبتسمات لفعله.
عندها لا تصير مجرد "تجربة بيولوجية" .
للتواصل مع الكاتب