التوقيت الجمعة، 22 نوفمبر 2024
التوقيت 06:02 م , بتوقيت القاهرة

ماذا قال أنسي الحاج عن فاتن حمامة وزمنها الجميل؟

حكى الشاعر اللبناني الراحل أنسي الحاج عن لقاءات ثلاثة جمعته بسيدة الشاشة العربية، في مقال عن فاتن حمامة نُشر قبل عامين بجريدة الأخبار اللبنانية، يحكي أنسي عن أزمة معاصرة الزمنين والوقوع في شرك المقارنة بين الزمن الجميل وزمن الهبوط.


 يقول أنسي قبل الاسترسال في سرد مواقفه مع "أرقى صورة في الفن المصري" حسب تعبيره: "تظن أنْ ليس في وجهها غير العذوبة والأنوثة، لكنك لا تلبث أن تكتشف السخرية، سخرية لطيفة أخوية، وسخرية متمردة كهبّة نسمة حرير، وسخرية إذا غضبت فكشجرة ورد تُزايد على الريح التي تراقصها".


يصف أنسي الحاج عيني فاتن بأنها أجمل من عيني الجيوكوندا، يقول إنها جسّدت "البنت" في المطلق: "البنت التي يُخاف عليها، التي تستثير فيك طبائع الحماية، البنت الوسط بين الطفلة والمراهقة، والمراهقة ومراهقة أكثر نضجا، البنت التي، من فرط نضارتها وإدخالها الروح إلى حياتك، لا تريد لها أن تكون إلا معك. ومن ذا يود أن يسمع اسمه من صوت آخر بعد أن تناديه فاتن حمامة باسمه؟ والارتعاشات أو الدموع غير الظاهرة التي ميزت صوتها، ارتعاشات كحِيل الأولاد الخائفين من قسوة الكبار، دموع نجاة تارة وخوف طورا، دموع من خبر الحياة قبل أن يولد".


ومضى أنسي الحاج يحكي في مقاله المنشور:


في منتصف ستينيات القرن الماضي زارت بطلة "دعاء الكروان" وزوجها عمر الشريف بيروت. كنت، إلى جانب عملي في "النهار"، أترأس تحرير مجلة "الحسناء" التي كادت تتحول معي إلى مجلة أدبية. كانت سونيا بيروتي كبرى المحررات في المجلة وعلى صلة بمعظم المشاهير. فاتحتها، كما فاتحت رفيقتنا حنان الشيخ، (ولا أذكر إن كان الزميل رفيق خوري قد انضمّ إلينا يومها) في شأن إجراء مقابلة مع فاتن حمامة تكون موضوع غلاف العدد، قالت نحاول. 


كانت مكاتب "الحسناء" تحتل مكان "النهار" القديمة في سوق الطويلة، وكان الوصول إليها يقتضي صعود درج ضيق معتم من عهد العثمانيين له أول وليس له آخر. وعوض أن أقوم أنا وسونيا وحنان والمصور وسائر الفريق بزيارة الفنانة الكبيرة في الفندق كما يقتضي الواجب والذوق، فوجئت بفاتن حمامة تدلف من الدرج العثماني وتسألني: "إزيَّك يا أستاذ أُنسي؟" كان وجهها الملهم قد سكنني كما سكن الملايين من زمان عبر أفلامها، (بدأت أول أدوارها في الخامسة أو السادسة من عمرها مع محمد عبد الوهاب في فيلم "يوم سعيد")، لكني لم أكن أتوقع هذا السحر، هذا القرب، هذا التواضع المربك. كان وبالا علي أن أسمع اسمي بصوتها، فلم أعد من بعدها أستطيبه من فم أحد.


فاتن حمامة أرقى صورة عن الفن المصري، موقظة أخطر شعورين في المشاهد: الإعجاب والذنب.


أمضت فاتن معنا في «الحسناء» بضع ساعات لن أنساها. أجابت عن كل الأسئلة وكأنها تعرفنا ونعرفها من مئة سنة. تحولت المجلة وسوق الطويلة وبيروت إلى حقول مغناطيسية خلقها حضور فاتن وعينيها المستعصيتين على الوصف وصوتها الذي، بجاذبياته المتعددة، يتحول إلى قلب بجانب قلبك، الأول يداعب الثاني، والثاني يقول لنفسه: إنها نعمة لا أستحقها.


كان ذلك أول لقاء، وأسعدني الحظ بلقاءات ثلاثة أخرى وهذه المرة بصحبة عمر الشريف: مرة عابرة على غداء في مقهى "الكافي دو لا بريس" بدعوة من المرحوم حبيب نحاس، ومرة في سهرة عند ناديا وغسان تويني في بيت مري، والمرة الأخيرة في سهرة عند فيروز والأخوين رحباني، وكانت فيروز قد انتقلت حديثا من بيتها القديم في أنطلياس إلى دارتها الجديدة في الرابية.


لا أنسى مشهد فاتن جالسة قرب يوسف وهبي وهو باسط جناحيه على كتفيها. كانت ترتدي نظارات بسبب تعب عينيها من البروجكتورات. كان يوسف أكبر من أبيها، وكان يشعر نحوها بأبوة، وكانت تستملح نكاته، وهو صاحب العبارة الشهيرة "شرف البنت زي عود الكبريت ما يولعش إلا مرة واحدة". كنت في حينها أنشر له مذكراته في "الحسناء" حيث يظهر زير نساء من الطراز المخيف. وسألته في السهرة، مغتنما انشغال فاتن بحديث مع فيروز: "ما يولعش إلا مرة واحدة؟" فأجاب بوقار أكثر هزلية من الهزل المباشر: "سيبك. هوا ما يولعش إلا مرة واحدة كل مرة".
كانت تلك آخر مرة أتيح لي فيها السهر في حضور نجمة الشاشة المصريّة.


تغضب في بعض أفلامها "أفواه وأرانب" فتبدو مثل قطة تخرمش الستائر والهواء. في "دعاء الكروان" لم يجسد أحد مثلها فتاة الصعيد. وتحب الفيلم "بركات" أكثر مما تحب الكتاب "طه حسين". بنت مصر بأجمل ما فيها.
زمن لم تعد فيه فاتن حمامة صبية السينما ولا أم كلثوم مطربة مصر ولا فريد الأطرش مجسد الرومانسية ولا شكري سرحان وأحمد مظهر فتيي الشاشة ولا عبد الوهاب سقف الجميع، زمن أي شيء هذا؟
ليتنا لم نعش لنقارن. ليتنا ولدنا في زمن الانحدار كي نرى كل هذا الهبوط صعودا.