التوقيت الجمعة، 22 نوفمبر 2024
التوقيت 09:42 م , بتوقيت القاهرة

حقيبة عمرو دياب !

غنى عمرو دياب في الأفراح الشعبية وغنى في قصور الثقافة، وغنى في الفواصل التي تسبق ظهور الراقصة نجوى فؤاد في سهرات فندق "شيراتون" القاهرة، غنى في شارع الهرم، في الملاهي والكباريهات، غنى لعشرة وغنى لألف وغنى لمائة ألف، قبض خمسة جنيهات وقبض خمسة ملايين دولار، القصد أنه تعب وأنه أصر وأنه قرر وأنه فكر وأنه ألح على النجاح ومازال.


في بداية حياته، كان قادمًا من بورسعيد، لم يجد في آخر الليل غرفة ينام فيها حتى أنقذه موسيقيّ شاب أصبح صديقه بعد ذلك، وبات في بيته، لم يكن يملك ثمن غرفة في بنسيون، ولم يكن يملك سوى حقيبة صغيرة ليس فيها إلا قميصين وبنطلون وفرشاة أسنان.


أول حفل مُنح فيه فرصة للغناء، لم يجد بذلة يرتديها، طيب طبال الفرقة الموسيقية التي سيغني عليها وأعطاه بذلة سموكنج ليحضر الحفل ويغني، كم كانت ليلة تعيسة جدا في حياته، لأن البذلة كانت ضخمة إلى حد جعل نجوم كبار حضروا الحفل الذي أقيم في ختام مهرجان القاهرة السينمائي يسخرون منه، وكتب صحفي في روز اليوسف يصفه بعمرو كباب، كان يُمكن ببساطة أن يحمل حقيبته الصغيرة ويعود من حيث بدأ في بورسعيد، يعمل مدرس موسيقى ويغنى في الأفراح الصغيرة.


ملايين لو حدث لهم هذا.. سيغلقون حقيبتهم، ويودعون قصة النجاح التي لم تبدأ، ويعودون أدراجهم.


لكن عمرو دياب.. لم يفعل؟
بعض الناس الذين لا يعرفون عمرو دياب يصفون قصة نجاحه بالذكاء، اقتسمنا مشوارا طويلا، وأستطيع أن أصفه بالعنيد. عنيد ومتمرد، متردد كثيرا، يفكر مائة مرة، يبيع أشياء كثيرة على أول ناصية، لكنّه يظل محتفظا ببروده وهدوء أعصابه وهو يتخذ القرار الأخير.


إذًا، لا قاعدة للنجاح سوى الإصرار العنيد، الإلحاح المستمر، كلما أُغلق باب دق عليه ألف مرة، يـ افتحه يـ اكسره، الدموع لا مكان لها من البدايات التي يرغب أصحابها فى النجاح، لا أحد سوف يعطيك يده لتقف، ولا يمهد لك فرصة لتمشى إلا لكي يحركك كيفما يشاء، صناعة النجاح لا تحتاج كما يظن الأغلبية إلى واسطة، إلى منحة، قصص النجاح الحقيقية يخلق أصحابها فرصها بأنفسهم.


في جعبة عمرو دياب دائما مفاجآت كثيرة، كثير منها مزعج، لكن القليل فيها رائع، رائع مثلا أن يكون في مصر نجم بحجم عمرو دياب في 2015، حيث النجوم عجزوا عن مواصلة الطريق، وقرروا، بكل رغبتهم، في البقاء في منطقة دافئة، يستجمون في آخر العمر، باسترجاع قصص نجاحهم.


 بالعكس عمرو دياب يمضي، لا يتوقف، نحن فى احتياج إلى عمرو دياب بكل نجوميته تماما كما هو فى احتياج لنا، دع الأمور تصبح واضحة، بدون ذرة رمادية تحجب الرؤية، عمرو دياب ليس مجرد نوستالجيا لأيامنا الحلوة، لكنّه نموذج ناجح في مجاله، لا يجب أن ننتظر بغلٍ لحظة الانتهاء منه، فإذا انتهى، لا أظن أننا سنرى نجوما في مجالات كثيرة لسنوات طويلة، ليس لأن عمرو هو الأفضل والأحسن والأكثر فهمًا وطربًا، لكن لأننا في زمن تُقدر فيه ميزانية الدولة بعدد الناجحين ببريق في هذه الدولة.


كم أحب صوت هاني شاكر ومدحت صالح ومحمد الحلو وعلي الحجار، وطبعا محمد منير ومحمد فؤاد، لكني هنا أتكلم عن مغنٍ جعل من نفسه حالة متوهجة بعد مضي 32 سنة على البداية المتواضعة للغاية.


نحتاج إلى نجوم في كل مجال، مع الاعتبار إذا فتحت قوسا لهذه العبارة المُهمة ( الدولة لا تصنع نجوما، هذه صناعة ذاتية شخصية فقط، وكل من حاولت الدولة نفخهم ليضيئوا، ماتوا في لحظة النفخ ذاتها).


نحتاج نجوما في الطب وفي الهندسة وفي الصحافة وفي الأدب وفي العلوم وفي القانون وفي السياسة وفي الإعلام وفي الغناء وفي الموسيقى وفي التمثيل.. هؤلاء يُصنعون على مهل كما يصنع قالب العسل في الخلية، لكي يصبح أحلى مذاقا وأكثر تأثيرا.