التوقيت الثلاثاء، 26 نوفمبر 2024
التوقيت 07:08 ص , بتوقيت القاهرة

أمس واليوم

ولد التمثيل الصامت في "مصر".
أخيرًا ظهر في جو مصر نجمٌ لامعٌ وكوكبٌ ساطعٌ يُريد أن يخدمَ "مصر" وأبناء "مصر".. إنها السينما المصرية القومية البحتة.. هل تعوزنا المناظر؟!.. لا.. إذًا لماذا لا تكون لنا في سنين قلائل مدينة "كهوليوود" ولتكن إمبابة!
قامت السيدة الفاضلة "عزيزة أمير"، وهي كوكب من أشهر كواكب التمثيل في "مصر"، لا تقل عن "ماري بيكفورد"، قامت ببدء المشروع الخطير وهو إحياء السينما المصرية.. "ليلى" هو اسم الرواية التي تدور حول الشرف المصري.. المشروع موجود فقط يحتاج إلى تعضيد وتشجيع.. ولا خوف من المنافسة.. أجل "إمبابة" سوف تُضارع "هوليوود". 
الفقرة السابقة تصدّرت جريدة الأهرام حاملة بيانًا عن مولد السينما في "مصر".. وذلك قبل عرض فيلم "ليلى" بأيام قليلة في 1 نوفمبر 1927.
فكيف وُلدت السينما المصرية؟!.. وما هي حكاية تلك الرائدة الرائعة "عزيزة أمير" التي وجدت في السينما خلاصها وضالّتها المنشودة، وطموحها الجامح.. وهدفها النبيل! 
في أوائل العشرينيات من القرن الماضي كانت "عزيزة أمير" نجمة مسرحية قدمها "يوسف وهبي" بطلةً لمسرحية "الجاه المزيف" التي ألفها خصيصًا لها.. ثم اختلفت مع فرقة "رمسيس"، واتجهت إلى تحقيق حُلمها بالظهور في السينما.
فالتقت بـ "وداد عرفي" الذي أقنعها بإنتاج فيلم تقوم ببطولته ويخرجه وهو يمثل دور البطل فيه، وأقامت عزيزة في منزلها بـ"جاردن سيتي" أول استديو للسينما في القاهرة، وحوّلت الدور الأرضي من الفيلا إلى معمل للطبع والتحميض، وقامت بشراء معدات التصوير من "ألمانيا"، وأنشأت شركة "إيزيس فيلم"، وهي أول شركة سينمائية عربية، واتفقت مع "وداد عرفي" على إخراج الفيلم واسمه "نداء الله"، واشترط "وداد" في العقد أن تُخصص له "عزيزة أمير" غرفة في الدور الأرضي من فيلتها ليُقيم بها مع تزويده بالطعام والسجائر طوال مدة العمل بالفيلم، علاوة على نسبة الثلث من أرباح الفيلم.
 وبدأ التصوير ولاحظت "عزيزة" أن "وداد" يعمل في بطء ظاهر لكي يستغل إلى أقصى حد شروط الاتفاق، فبدأت الخلافات تدِبُّ بينهما، خاصة وأنها اكتشفت أن ما صوره لا يعدو أن يكون مجرد مشاهد متفرقة لا رابط بينها.. عندئذٍ كلفت أحد الممثلين بالفيلم، وهو الصحفي "أحمد جلال"، بإعادة كتابة القصة بحيث يُمكن استغلال ما صُور.. فكتب "جلال" القصة الجديدة وأطلق عليها اسم "ليلى" وقام "استيفان روستي" بإخراج الفيلم. 
وقد ذكر "وداد" نقلاً عن كتاب "تاريخ السينما في مصر" لـ "أحمد الحضري"، أنه انفصل عن "عزيزة أمير"، ولم تفصله كما تدعي.. وقال: "أرادت السيدة "عزيزة" أن يتم الفيلم بالاشتراك مع زوجها.. ولكن أنّى لهما أن يقوما بهذا العمل وهما لا يعرفان عن الإخراج أكثر من إدارة الآلة اللاقطة.. وكل ما أضافه "استيفان روستي" هو مقدمة للرواية، أمّا ما يقولونه عن الرقصة البلدي التي يدّعون أنني أدخلتها على الرواية لأُحقر من شأن المصريين فأنا أقرر أنني لم أفكر فيها أبدًا.. وإنما كانت "عزيزة" هي التي ألحت عليّ بذلك، وتذكر السيدة أنني كررت عليها السؤال فيما إذا كانت هذه هي رقصة الطبقة المتعلمة في "مصر"، لأني لا أعرف كثيرًا عن العادات المصرية، فأفهمتني أن هذه رقصة كلاسيكية مصرية.. عند ذلك لم أجد مانعًا من الخضوع إلى طلبها بسلامة نية إلى أن نبهني زوجها "أحمد بك الشريعي" إلى أن هذه رقصة لا تُشرّف "مصر" فحذفتها من الفيلم. 
اللافت للنظر هنا أن غضب "الشريعي" لا علاقه له من قريب أو بعيد بالخطاب الديني الأخلاقي.. وعلاقة الرقص أو الفن عموماً بالحرام والحلال.. ولكن سبب الغضب وطني.. يعني بغيرة "الشريعي" على ما ينبغي أن يعرض ويليق بالمصريين ويشرفهم حضاريًا.. وبالتالي فإن أحدًا لم يُنبه "عزيزة أمير" إلى ما يسميه المتشدقون من أدعياء الفضيلة وفقهاء خلط الخطاب الفني بالخطاب الديني بالسينما "النظيفة" الخالية من الرقص والقبلات وارتداء المايوه. 
وبالرغم من أن "عبد الرحمن البنا" الشقيق الأصغر لمرشد الإخوان "حسن البنا" قد استعان بممثلات مثل "فاطمة رشدي" و"عزيزة أمير" في مسرحياته، إلا أنه أجبر الممثلات على تغطية أذرعهنّ أو أي جزء عارٍ يظهر من أجسادهن.. وقد روى أنه رأى "عزيزة أمير" ذات مرة ترتدي فستانًا بأكمام طويلة، ولكنّها واسعة بحيث إن ذراعيها تظهران من خلاله فدفعها لربط الأكمام بخيط لتضييقهما لا يظهر من جسدها أي جزء. 
لكن هذا لم يمنع "عزيزة أمير" من أن تواصل رسالتها الفنية، وأن تقتحم مجال السينما لتصبح أهم رائداتها دون أن يكفرها أحد.. ودون أن تلتزم بهذا الاحتشام الذي يفرضه الخطاب الديني على الفن.. مُدركة أن لكل مقامٍ مقالٌ ولكل شخصية تجسد على المسرح أو في السينما طبيعتها المختلفة وملابسها المناسبة، وأن المسرحيات التي كان يشرف عليها "البنا" هي مسرحيات تاريخية، لابد أن تلتزم فيها الممثلات برداء محتشم فضفاض يناسب الطبيعة العربية القديمة التي كان يستقي منها نصوصه ومؤلفاته .
المهم أنه فيما يتصل بفيلم "ليلى" بعد أن أصبح معدًا للعرض.. حاولت "عزيزة" أن تجد واحدًا من أصحاب دور العرض الكبيرة يوافق على عرضه، ولكنّها وجدت منهم اعتراضًا.. وأخيرًا اتفقت مع صاحب سينما "متروبول" على استئجارها لمدة أسبوع بمبلغ ثلاثمائة جنيه.. أي أنها عرضت الفيلم على حسابها وأقيمت حفلة كبيرة في ليلة افتتاح العرض في (16 نوفمبر1927) دُعي إليها كثيرٌ من البارزين منهم "طلعت حرب" وأمير الشعراء "أحمد شوقي"، وحقق الفيلم نجاحًا طيبًا.. ورحبت به الصحافة ترحيبًا بالغًا.
 وكانت كلمات "طلعت حرب" لعزيزة أمير: "لقد حققتِ يا سيدتي ما لم يستطع الرجال أن يفعلوه.. لهذا أطلق على "عزيزة أمير" لقب مؤسسة فن السينما في مصر، فقد كان هذا هو أول فيلم مصري مائة في المائة تأليفًا وإنتاجًا وإخراجًا وتمثيلاً.. وكسبت السينما بظهور فيلم "ليلى" والأفلام التي ظهرت بعده جمهورًا جديدًا، فقد كان رواد السينما وقتئذٍ معظمهم من الأجانب وبعض طلبة المدارس العليا وعدد من المتعلمين وجدير بالذكر أن نسبة الأمية في مصر كانت تزيد على التسعين في المائة . 
أمّا في عصرنا السعيد هذا فترتفع صيحات متخلفة من فقهاء التكفير ودعاة الظلامية، تُحرم وتمنع وتصادر وتفرض وصايتها وتنشر خطابًا كريهًا يتصدره أباطرة الفتوى الذين لا يكفرون الفنانات فقط.. بل يكفرون عمل المرأة ويطالبون بعودتها إلى المنزل، حيث إنهم يرونها كائنًا غريزيًا من أهل النار خُلِق لإثارة الشهوة الجنسية للرجال، وكل ما فيها عورة، وبالتالي فلا بد من إخفاء ملامحها وجسدها وحبسها داخل خيمة متحركة والأفضل أن تظل حبيسة المنزل لا تبرحه إلا إلى القبر.. إنهم يريدون إلغاء وجودها الإنساني كله.