برشلونة ويوفنتوس ضد أهل الكهف
مساء السبت 6 يونيو 2015. وفجأة يتغير أغلب "البروجرام" المعتاد على الفيس بوك (المصري). السياسة أقل، والجدل أقل. لا صوت يعلو فوق صوت اللقاء المرتقب في نهائي دوري أبطال أوروبا بين يوفنتوس (الإيطالي) وبرشلونة (الإسباني).
بوستات تشجيع.. بوستات توقعات للنتيجة.. بوستات مقارنة بين نتائج الفريقين في الفترة الأخيرة.. بوستات سخرية واستهزاء من الخصم.. بوستات لفيديوهات أهداف سابقة لمهاجمي الفريقين.. بوستات من كل شكل ونوع، كما لو كنت في انتظار أحد لقاءات الأهلي والزمالك.
الأجيال التي عاصرت أوائل ومنتصف التسعينات، ستتذكر أن نهائي دوري أبطال أوروبا والمباريات العالمية المماثلة، كان مجرد خبر صغير في ركن صفحة الرياضة في الجرائد، يلخص النتيجة وأصحاب الأهداف، أو فيديو قصير، نصف دقيقة، ضمن فقرة الرياضة في نشرة الأخبار، يُلخص نفس النقاط وشكرا!
القفزة المهولة في أهمية النهائي للجيل الحالي، تلخص تطورا عالميا خلال آخر 20 سنة، بفضل تقدم وسائل الاتصالات ورخصها. الشاب الأقل من 20 سنة، المنتمي لأسرة متوسطة أو ثرية، تفتح وعيه على الدنيا والدش والكمبيوتر والإنترنت موجودين في المنزل، لكن السيناريو اختلف تماما للأجيال الأكبر.
للتذكرة، دعني أخبرك أن تكلفة شراء وتركيب أرخص دِش في عام 1995 كانت تتجاوز الـ 6 آلاف جنيه بقدر ما أذكر (لاحظ القوة الشرائية للرقم وقتها). حاليا لا تتجاوز التكلفة 250 جنيها تقريبا. وأن امتلاكك لكمبيوتر في المنزل كان بالنسبة للعديدين أحد معالم الثراء الفاحش حتى أواخر التسعينات!
أما مصطلح (سرعة السلحفاة) الذي يستخدمه العديدون للسخرية حاليا من شركات الإنترنت المصرية، فقد كان وقتها غير مستخدم بعد، في عصر الولوج للإنترنت عن طريق الاتصال برقم تليفون، مع سرعة السلحفاة الحقيقية ومتوسط انتظار 3 - 5 دقائق كاملة أمام الجهاز، لتحميل صفحة إنترنت واحدة بسيطة المكونات، تُعادل صفحة المقال الذي تقرأه حاليا!
الهزة الثقافية المهولة مع ثورة الإنترنت والفضائيات والموبيلات، تلغي بمرور الوقت الحواجز والخصوصيات الثقافية. اهتماماتك - دون إرادتك - تتنقل من خانة الموجود في محيطك الجغرافي لخانة الموجود في العالم. لم تعد الموسيقى هي المتوفر فقط في سوق الكاسيت أو برامج التليفزيون والراديو المحلية. لم تعد السينما هي الفيلم المتوفر فقط في نادي الفيديو أو برنامج التليفزيون الأسبوعي. لم يعد المقال هو المتوفر فقط في جريدة مصرية مطبوعة.
انتهى كل ذلك، وأصبح المتاح أمامك بفضل الإنترنت والدش غير محدود أو مرهون بموافقة رقابة وسلطة. خصوصا إذا كنت تجيد لغة أجنبية (وأنصحك أن تهتم بإتقان الإنجليزية كحد أدنى).
أجواء الحماس والتشجيع الجنونية بين المصريين بخصوص ماتش أجنبي، وتصاعدها التدريجي عاما بعد عام، الذي سيتجاوز يوما ما فرقنا المحلية، واحدة من مئات العلامات التي تُثبت أن كل ثقافات واهتمامات العالم في طريقها للانصهار من الخاص للعام.. من الكيانات الصغيرة للكبيرة.. من المحلي للعالمي. ومن المؤسف أننا كغالبية لا نزال نُنكر ونتعامى عن هذه الحقيقة، ونتحدث بمنطق القرية الصغيرة المُغلقة عن الحفاظ على خصوصيات ثقافية واللغة والثوابت والحجب والمنع.. إلخ.
الإنكار مفهوم الأسباب نسبيا للأجيال فوق الـ 60 حاليا، التي عاصرت ظهور التليفون والتليفزيون في المنازل، وترعرعت في منظومة شبه مغلقة من الألف للياء.
لكن الغريب فعلا أن تجد هذا الإنكار مستمرا على لسان شاب، يعيش أغلب يومه يتابع الإنترنت، يستمع إلى موسيقى أجنبية، يشجع فرقا في الدوري الإسباني والإيطالي، ينتظر الموسم الجديد من مسلسله الأجنبي المفضل، يشاهد أفلام هوليوود بانتظام، ورغم كل ما سبق غير قادر على ربط واقع حياته المختلف تماما عن الأجيال السابقة، ليبدأ التحليل والتفكير بهدوء بعيدا عن أفكارهم وثوابتهم، المنتهية الصلاحية.
الكرة الأرضية لن تتسع مستقبلا لمصطلحات (ثقافتنا - الخصوصية - الهوية - القومية - ثوابت الأمة - الحجب - المنع - الرقابة.. الخ). كل هذا في طريقه للانقراض. الحضارات الأقوى والأفيد ستسود، وتدريجيا سيودع العالم عصر (الأمة - الدولة) إلى عصر (الكوكب الواحد والحضارة الواحدة)، تماما كما ودع أغلبه من قبل عصر (القبيلة - العشيرة.. وخلافه).
وبنفس درجة السهولة والثقة التي يُصدق بها غالبيتنا حاليا على حقيقة انتهاء عصر القبيلة، ويعترض على حدوث نفس الشىء مستقبلا لعصر الدولة والأمة، عاش أغلب رجال عصر القبيلة بنفس الثقة، وهم لا يفكرون لحظة في كون القبيلة فكرة ومنظومة في طريقها للنهاية.