لايكات الفيسبوك: السوق أفضل أخلاقا من الكتب
الأفراد يحرصون على عدد اللايكات في فيسبوك لأنها ذات "قيمة". قيمتها أنها مؤشر إعجاب. اللايكات على الفيسبوك تشبه "الشعبية"، وأحيانا الشهرة، في العالم الواقعي. وهو ما قد يتطور إلى مكاسب مهنية ومادية مباشرة بالنسبة لمن يحصلون عليها. أن تستكتبهم جريدة، أن يتحولوا إلى نجوم إعلاميين، أو حتى يدخلوا إلى عالم السياسة والنفوذ. بعض المدونين المصريين لديها متابعون أكثر مما لدى صحف ومؤسسات إعلامية.
هذا جانب واحد فقط في مدى تأثير الفيسبوك على عالمنا الحالي. كيف - لاحظي - يمنح فرصا للأشخاص للتعبير عن مواهبهم. وكيف - لاحظي أيضا - يعيد رسم معايير تقييم الأشخاص. راجعي حياتك في السنوات الأخيرة، انظري كم أثر الفيسبوك على دائرة معارفنا. كم قربنا من أناس وأبعدنا عن آخرين.
الوضع في عالم البزنس يتجه من هنا مباشرة إلى المصالح المادية. قوة الجذب الإعلانية تتناسب طرديا مع عدد اللايكات.
وهنا مربط الفرس في هذا المقال.
لماذا تدخلت إدارة فيسبوك لكي تراجع اللايكات التي تحصل عليها الصفحات المختلفة، فتتخلص من المزيف، وتثبت "الحقيقي"؟ بسبب عالم البزنس.
التجارة، البزنس، مسؤولة عن تطور كثير من "أخلاقنا الحميدة"، لكننا لا ندري. مجتمعات النشاطات الإنتاجية القديمة، كمجتمعنا الزراعي، لا تعي ذلك، لا تزال تتغنى بأخلاق القرية، وميراث العائلة. التجارة كانت جذر شجرة السماحة في مقابل التعصب، والتعاون بدلا من الاقتتال، بل والديمقراطية نفسها كنظام سياسي.
إذ كانت التجارة حاملة لواء الفردية، وحرية الانتقال، ودراسة الشعوب الأخرى. وبالتالي فهي قوة دافعة وراء الأبحاث الجغرافية والبشرية، والبحث العلمي. كما كانت مجالا جيدا للحراك الاجتماعي، وتبادل الثروة، وتوزُّع الثروة، الذي يؤدي لاحقا لتوزُّع السلطة. عكس كل ما سبق يمكن نسبته إلى المجتمعات الزراعية، التي تعتمد على ذلك النشاط الإنتاجي (والتكنولوجي) القديم جدا. لا لفضل جوهري في واحد من النشاطين على الآخر، وإنما بسبب فروق تفرضها طبيعة النشاط، وتطور الفكر الإنساني المجتمعي ارتباطا به.
"اذهبوا إلى البورصة في لندن"، يقول فيلسوف التنوير الفرنسي فولتير، "المكان مستحق للتقديس أكثر من كثير من المعابد. هناك سوف تجدون مندوبين من كل الأمم مجتمعين هناك لمنفعة البشرية. هناك اليهود والمحمديون (المسلمون) والمسيحيون يتعاملون مع بعضهم البعض وكأنهم أبناء ديانة واحدة، ولا يستخدمون لفظة كفار، إلا مع المفلسين".
كيف فعلت التجارة ذلك؟ بشيئين: القيمة (السعر) والمسؤولية الفردية.
سنتجادل أولا حول السعر كمؤشر للقيمة. ستقولين إن السعر لا يساوي القيمة، ستدعين أن الأول نسبي والثاني ثابت، وأن الأول يقدره الآخرون والثاني كامن في الشيء نفسه. سأقول لك هذا كلام يبدو مرتبا لكنه في الحقيقة هو الخطأ الفلسفي المسؤول عن كثير من أمراضنا الاجتماعية، وهو الخطأ الفلسفي الذي غيرته التجارة. القيم نسبية. ما يساوي الدنيا اليوم، قد يساوي ظفر أصبع غدا. ينطبق ذلك على العلاقات البشرية (قيمة آخرين في حياتنا). كما ينطبق على قيمة القوة العضلية من عصر إلى عصر. وعلى قيمة الشهادة الجامعية من مجتمع إلى مجتمع. وعلى قيمة مهارة بعينها، من مدينة إلى مدينة. لو ندرت المهارة زادت قيمتها. (جاي تبيع الميه في حارة السقايين؟!).
لقد أثر هذا على الأخلاق والسلوك. إن كانت القيم نسبية فالأخلاق نسبية. خلق كالغيرة ذو قيمة كبيرة جدا في المجتمعات الذكورية العائلية، لكنه ذو قيمة أقل في المجتمعات الفردية. الالتزام بالكلمة سلوك مهم جدا في المجتمعات التجارية، ومعها الالتزام بالمواعيد. بينما هذا سلوك لا توليه المجتمعات القديمة (الزراعية) اهتماما كبيرا.
المفتاح هو المسؤولية الفردية. هناك ثمن ستدفعه إن عبثت بتلك القيم. إن عبثت بقيمة الالتزام بالكلمة في السوق ستدفعين الثمن من سمعتك وبالتالي من أرباحك أو من أصل رأسمالك. أما في المجتمعات التشاركية، فإن المهرة والخائبين يتساوون ربحا وخسارة.
قصة الفيسبوك مع اللايكات تشبه قصص التحول في النشاط الاقتصادي. حين بدا أن لايكات الفيسبوك تحمل "قيمة" اقتصادية سارع محترفو الفرص إلى انتهاك النظام واستغلال الثغرات، فعظموا اللايكات كذبا، وبالتالي خدعوا شركات الإعلانات. لكن لأن شركات الإعلانات تدفع قيمة ما، ولا تتصرف في مال سايب، فقد ألقت بثقلها لتعديل الأوضاع، وتظبيط "قيمة" سلعة اللايكات.
الربح والخسارة، لا شيء آخر، مفتاح ترتيب الأشياء حسب قيمتها. قيمة الكهرباء وقيمة الماء. قيمة البنزين وقيمة رغيف العيش. قيمة المعرفة وقيمة الاعتقاد. قيمة شخص في حياتك. قيمة رأي كبار العائلة. قيمة النسب العائلي. إلخ.
مفتاح التحول في مصر، وفي أي مجتمع آخر، أن تحصل المهن والسلوكيات والسلع على قيمتها الحقيقية في عصرنا، في عالمنا، وليس على قيمها التي كانت عليها منذ آلاف السنين، ولا قيمها التي ستحصل عليها في عالم غير هذا العالم. لو فعلنا ستنضبط المعادلة.