"تحويل القبلة".. عندما غيّر الله قبلته إرضاء لنبيه
في منتصف شعبان من السنة الثانية للهجرة، خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم زائرًا أم بشر بن البراء بن معرور فى بنى سلمة فصنعت له طعامًا، وحانت صلاة الظهر فصلى بأصحابه فى مسجد هناك، فلما صلى ركعتين أوحى الله تعالى إليه- وهو فى الركوع بالركعة الثانية- بآية "قَدْ نَرَى? تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ".
كان النبي في صلاته مُتَوَجِّهًا إلى بيت المقدس صوب الجدار الشمالى للمسجد فاستدار وهو راكع واستدار أصحابه معه حتى وجه وجهه الشريف إلى الجدار الجنوبى لمواجهة الكعبة المكرمة، حتى صار النساء فى موضع الرجال، والرجال فى موضع النساء، كما ذكر القسطلانى فى المواهب، وصاحب السيرة الحلبية.
وعرض المكان الذي تم تحويل القبلة فيه باسم مسجد "القبلتين".. وهذه صورته الآن.
قبلة ترضاها
من ظاهر الآية يوضح سبب تحويل القبلة وهو تقليب النبي وجهه في السماء بعد أن هاجر إلى المدينة لكي تتحول، لأنه في مكة كان يضع البيت الحرام بينه وبين بيت المقدس، لكن بعد الهجرة استحال ذلك لوجود المدينة المنورة بين البيتين، فلما رأى الله تقليب وجهه نبيه، حول القبلة، وأنزل أياته ليرفع من شأن نبيه ويقول له "فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا"، قال القرطبي في تفسيره أن معنى ترضاها أي تحبها.
ويقول الإمام أبو العزائم في تفسيره "أسرار القرآن": النبي يرى بنور قلبه أن قبلته الدائمة هى الكعبة، وأن الله تعالى ما أمره بأن يولى وجهه شطر بيت المقدس إلا لحكمة، وجائز أن يكون ذلك تضرعًا إلى الله تعالى فى أن يجعل قبلته الكعبة، فلباه الله تعالى وأخبره أنه بأعينه وسمعه.
وأضاف: وفى قوله تعالى: "تَرْضَاهَا" برهان على محبة الله للنبي، وكمال عنايته به، واختصاصه بمزيد فضله.. والقبلة التى يرضاها رسول الله يخبر الله عنها بأنها هى التى يرضاها الله جلت أسماؤه؛ لاتحاد رسول الله بالله تعالى إرادةً وأمرًا.
ما قبل التحويل
يذكر الحلبي أن اليهود قبل تحويل القبلة كانوا يقولوا: يخالفنا محمد ويتبع قبلتنا، وفى رواية بالسيرة الحلبية قالوا للمسلمين: لو لم نكن على هدى ما صليتم لقبلتنا فاقتديتم بنا فيه.
وقال كفار قريش للمسلمين: لم تقولون نحن على ملة إبراهيم وأنتم تتركون قبلته وتصلون إلى قبلة اليهود؟.
اليهود وطلب العودة
بعد أن تحولت القبلة، يذكر صاحب السيرة الحلبية أن قوم من كبار اليهود اجتمعوا وجاءوا إلى النبي وقالوا له: يا محمد ما ولاك عن قبلتك التى كنت عليها وأنت تزعم أنك على ملة إبراهيم ودينه.
وفى رواية قالوا: ارجع إلى قبلتك التى كنت عليها نتبعك ونصدقك، وكانوا يقصدون بذلك فتنته؛ ليعلم الناس أنه فى حيرة من أمره.
وقيل: اختبارًا لما يجدونه فى نعته من أنه يرجع عن استقبال بيت المقدس إلى استقبال الكعبة، وأنه لا يرجع عن تلك القبلة، كما أورد العزمي في "السيرة النبوية".
ذكر القسطلانى فى المواهب اللدنية: قالت اليهود: اشتاق إلى بلد أبيه، وهو يريد أن يرضى قومه، ولو ثبت على قبلتنا لرجونا أن يكون هو النبى الذى ننتظر أن يأتى، فأنزل الله تعالى: "وَإِنَّ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِم"، فيعنى أن اليهود الذين أنكروا استقبالكم الكعبة وانصرافكم عن بيت المقدس يعلمون أن الله سيوجهك إليها بما فى كتبهم عن أنبيائهم.
صاحب القبلتين
ويعد تحويل القبلة من الأمثلة الدالة على مكانة النبي العظيمة عند ربه، فما كان لنبي قبله أن يكون له قبلتين أو أن تتغير القبلة لقبلة أخرى، ويقول الإمام السبكي في تائيته:
وَصَلَّيْتَ نَحْوَ الْقِبْلَتَيْنِ تَفَرُّدًا ... وَكُلُّ نَبِىٍّ مَّا لَهُ غَيْرُ قِبْلَةِ
يقول برهان الدين الحلبي في سيرة نور العيون: ومن ثَمَّ جاء فى التوراة فى وصفه صلى الله عليه وآله وسلم أنه "صاحب القبلتين".