عينُ الدولة وسنُها وخدُها ورداؤها في بني تسويف
"سمعتم أنه قيل: عين بعين وسن بسن وأما أنا فأقول لكم: لا تقاوموا الشر، بل من لطمك على خدك الأيمن فحول له الآخر أيضًا. ومن أراد أن يخاصمك ويأخذ ثوبك فاترك له الرداء أيضًا. ومن سخرك ميلاً واحدًا فاذهب معه اثنين. من سألك فأعطه، ومن أراد أن يقترض منك فلا ترده. سمعتم أنه قيل: تحب قريبك وتبغض عدوك وأما أنا فأقول لكم: أحبوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم، أحسنوا إلى مبغضيكم، وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم".
متى: الإصحاح الخامس، الآيات 39: 44
عندما تظن جماعة من الغوغاء أن من حقهم أن يقرروا وفقًا لأهوائهم من يبقى في بيته ومن يرحل، فإنهم بهذا لا يضعون عيونهم في عين الدولة متحدين لقانونها وقوتها، بل أنهم يفقأون عينها في شجاعة يُحسدون عليها.وعندما يقوم الغوغاء بتنصيب أنفسهم حكامًاـ ولو على شبر واحد من الأرض ـ فإنهم لا يعضون بأسنانهم على أصبع الدولة، بل يوجهون لأنياب تلك الأخيرة وضروسها وقواطعها لكمة تهشمها دفعةً واحدة.
يلطم الغوغاء خد الدولة الأيمن بتجمهرهم أمام بيوت جيرانهم المستضعفين، فتدير لهم خدها الآخر ليشعلوا النيران في البيوت.
يذهب المستضعف مستنجدًا من الغوغاء بالكبار من ذوي الحظوة ولابسي الأثواب المقدسة بدلاً من مخفر الشرطة، فتتنازل الدولة لهؤلاء عن ثوبها وردائها وتسير في الطريق عاريةً من كل فضيلة.
وعندما تقوم المجالس العرفية مقام النيابات والمحاكم، وعندما يجلس رجالٌ لا صفة لهم مجلس القضاة، فإن الدولة لا تسخر نفسها ميلاً أو اثنين، بل تجعل من نفسها مطيةً يمتطيها الغوغاء لآخر الأرض.
عندما تسمح الدولة لغيرها بالكلام في مجلس يُفترض فيه أنه يقيم العدل فإنها بذلك لا تعطي من سأل، ولا ترد من أتاها طالباً قرضاً، بل هي بذلك تبيح جيوبها وخزائنها للناهبين يدسون أياديهم فيها كما يدس المتآمر السم في العسل.
عندما تنصت الدولة لأي سببٍ أو عذرٍ أو مبررٍ لسلوك غوغائي (مهما كانت دوافعه) وتتسامح معه فإنها بهذا لا تحب أعداءها ولا تبارك لاعنيها فحسب، بل إنها تبذر بذور الكراهية في قلوب الجميع من محبي القانون وتستنزل لعناتهم عليها.
عندما تعيد الدولة، بعد فضيحة إعلامية، مواطنين تم إجبارهم على ترك بيوتهم، دون أن تعاقب وتبطش بمن سولت لهم أنفسهم أن يتحدوا هيبتها وسطوتها وقانونها، فإنها حقاً قد تكون قد أحسنت لمبغضيها وصلت في محراب الهوان والذلة لمن أساءوا إليها وطردوها من بيتها، ذلك البيت الذي لا يحق لكائن من كان غير الدولة أن يحيا فيه ولو للحظة واحدة.. القانون.
ما حدث مؤخراً في بني سويف هو اعتداء سافر على الدولة قبل أن يكون اعتداء من جماعة من الناس على جماعة أخرى. وإذا كانت الدولة تريد حقًا أن تكون دولة قانون فعليها أن تتخلى عن إيمانها بالآيات الواردة في بداية المقال.
فلتفتح الدولة عيونها لتكسر عين كل من يظن أن بإمكانه تحديها، ولتغرس أنيابها في كل من يظن أن له نابًا قويًا. ولتلطم الدولة كل خد ووجه وأنف وجبهة يزاحمونها في سطوتها. بل ولتقطع الدولة قدمي وساقي كل من يفكر أن يطأ رداءها بطرف أصبعه.
القانون للدولة وحدها تستمد منه شرعيتها. لا توجد شرعيات أخرى غير شرعية القانون، ولا توجد دول أخرى غير دولة القانون.
المواءمات والمصالحات والأعراف والأحاديث المبتذلة لا تحل المشكلات، بل تسوفها فقط كما حدث في بني سويف.