التوقيت الإثنين، 23 ديسمبر 2024
التوقيت 03:52 م , بتوقيت القاهرة

رشة ملح

شخصيا، أشعر بالرضا عن مُجمَل الأحداث والقرارات في مصر منذ 30 يونيو وحتى الآن بنسبة حوالي 70?، وأشعر بعدم الرضا بنسبة حوالي 30?. ولن أخصِّص هذا المقال لتوضيح حيثيات الرضا، وإنما سأخصِّصه لتناوُل مُسبِّبات القلق. وباللغة الدارجة، وبمَثَل كان يتردَّد كثيرا على لسان جدتي الراحلة.. إذا كانت "الطبخة" السياسية-الاجتماعية-الاقتصادية منذ خلع عصابة الإخوان قد تكلَّفت حتى الآن 100 جنيه، جهدا وعرقا ودما وتنسيقا، فمن "الحرام" ومن العبث أن "نبوّظها" لأننا بكل غرابة "مش عايزين نرُشّ عليها بعشرة صاغ ملح". فما تفصيل ذلك؟


أرى أننا نحتاج إلى رشّ ثماني ذرَّات من الملح على طبق ممتاز أعددناه في ظل ظروف داخلية وخارجية بالغة الضيق والرداءة، وبدون تلك الذرَّات الثماني - التي تتألَّف منها رشة ملح كاملة - سنكون مُهدَّدين بإفساد الطبق بأكمله.


هناك أولا إشكالية السلفيين.. كلنا يعلم أنهم كانوا حلفاء للإخوان في اعتصامَي رابعة والنهضة، وأنهم كانوا يملكون ما يكفي من الحقارة وعدم الوطنية لعدم الوقوف احتراما للسلام الجمهوري، وأنهم كانوا ومازالوا يتفاوضون في السر والعلن مع أمريكا، وأنهم مسؤولون بفتاويهم وفضائياتهم عن جانب كبير جدا من التطرف الديني المُزمِن الذي نعانيه، وأن قياداتهم لم تحضر خطاب خلع مرسي إلا مُجبَرين أو من باب التقيَّة.


فكيف إذن يمكن لوزارة الأوقاف أن تفكر في الاستعانة بخُطباء سلفيين لمواجهة الفكر الداعشي؟! وكيف يمكن أن يستضيف ماسبيرو إلى اليوم بعض قياداتهم ليتكلموا في السياسة والأدب والدين على الشاشة الرسمية للدولة؟؟ أظنني لست بحاجة إلى التذكير بسيناريو السادات المأساوي مع الإخوان والسلفيين، وأظنني لا أبالغ إذ أقول إن الدولة يجب أن تعمل على فك ارتباطها بالسلفيين تدريجيا وعلى ملء الفراغ الاجتماعي والخدمي الذي تركه الإخوان بنفسها وليس بواسطة السلفيين، الذين تتسم اللعبة معهم بخطورة شديدة وتؤدي إلى تقويض حقيقي لمدنية الدولة.


وهناك ثانيا الأحزاب الدينية.. لقد تأسَّست تلك الأحزاب عقب ثورة/انتفاضة يناير، وكان السماح بتأسيس أحزاب بمرجعية دينية صريحة أو ضمنية خطأ كبيرا جدا، ولكن الظروف عقب يناير كانت مختلفة ويبدو أن السماح بتأسيسها كان حتميا آنذاك. ولكن الوضع اليوم تغيَّر كثيرا، والدولة بحاجة إلى اتخاذ قرارات لها قوة القانون تقضي بالسير في حل كافة الأحزاب التي لها مرجعية دينية صريحة أو ضمنية، وعلى رأسها حزب النور، لأن هذا يتماشى بكل وضوح مع نصوص الدستور، ولأن السماح ببقاء تلك الأحزاب لحين إجراء الانتخابات النيابية في سبتمبر أو بعد سبتمبر سيكون خطأ فادحا.


وثالثا، هناك إشكالية تطهير الوزارات والمصالح الحكومية من القيادات إخوانية الهوى أو التي عيَّنها الإخوان. إنني لا أشعر بأن الدولة تعمل في هذا الاتجاه وفق منظومة شاملة أو بجهد مستمر، وهذا له أضرار عديدة وشديدة الخطورة، لعل أوضحها قد تمثَّل في كارثة أن مهندسين إخوان بالكهرباء كانوا وراء منح خرائط الكابلات للمجرمين الذين فجَّروا محطات الطاقة بمدينة الإنتاج الإعلامي قبل أقل من شهرين.


وهناك، رابعا، ضرورة أن تكون هناك وقفة جادة مع العقلية الحاكمة للأزهر.. فالأزهر يُشغِل نفسه بمقاومة الإلحاد وبالمحاربة القضائية لبرنامج إسلام بحيري وبالتدخُّل في الرقابة على الأعمال السينمائية، في نفس الوقت الذي يقول فيه إن داعش هم مجرد مسلمين ضالين وليسوا مجرمين تكفيريين خارجين عن مِلَّة الإنسانية، وفي نفس الوقت الذي لا يُشغِل فيه نفسه كثيرا بتنقية مناهجه من نصوص جواز أكل لحم الأسير ونصوص من نوعية أن مُنقِضات الصلاة ثلاثة هي الحمار والكلب الأسود والمرأة، وفي نفس الوقت الذي لا نشعر فيه بأنه يبذل جهدا حقيقيا لتطهير هيئات تدريسه من الأساتذة التكفيريين الذين يُشيدون بجهاد بن لادن أو من المدرسين المساعدين الذين يدخلون الحرم الجامعي بسياراتهم المُحمَّلة بالمولوتوف.


والرشة الخامسة تتعلق بوقائع مؤسفة في الصعيد يتم فيها الاحتكام للجلسات العُرفية التي تقضي بتهجير عائلات قبطية من بيوتهم وقراهم. إن استمرار مثل هذه التصرفات المشينة واستمرار سكوت الدولة عليها يضربان مفهوم المواطَنة في مقتل، ولا يُعقل أبدا أن تكون الدولة قادرة على توجيه ضربات جوية خارج حدودها بدون إذن من مجلس الأمن للانتقام لذبح أبنائها بالخارج على يد دواعش ليبيا، ولا تكون قادرة على التدخُّل بحسم وبمفهوم دولة القانون لتأديب دواعش الصعيد الذين مازالوا يعتقدون أنهم دولة داخل الدولة.


وسادسا توجد رشة اقتصادية ذات صلة بالضرائب. ومع تفهُّمي النسبي لمُجمَل الظروف التي دفعت الدولة إلى تأجيل العمل بضرائب الأرباح الرأسمالية في البورصة وإلى صرف النظر - فيما يبدو - عن ضريبة المليون التي تم التبشير بها في أعقاب يناير، فإنني أعتقد أنه يتعيَّن على الدولة تفعيل هاتَين الضريبتَين في أقرب فرصة ممكنة. فمن غير العدل أن يتم التخفيض التدريجي للدعم على البنزين والسولار اللذين يمسان ميزانية الشخص العادي بشدة، ولا يتم تطبيق قرارات مماثلة في البورصة وعلى الطبقات الأكثر ثراء. إن عدالة توزيع العبء الضريبي وكفاءة ترشيد الإنفاق العام وتقليص عجز الموازنة تقتضيان السير في الاتجاهَين معا وبالتوازي.


والرشة السابعة مُحرِجة جدا لأنها تتعلَّق بحُكمٍ للمحكمة الدستورية، وأنا دارس وممارس للقانون ولا أستحب أبدا التعليق على أحكام القضاء، ولكنِّي أعتقد أن النقد البناء مباح وخصوصا حين تُحتِّمه الظروف والمتغيرات. فمن غير اللائق، بعد أشياء كثيرة من بينها سجدة الشكر الأخيرة لإرهابي ابن إرهابي في مطار أمريكي، أن يتم السماح حقا لمزدوجي الجنسية بالترشُّح للبرلمان القادم. وأعتقد أن هذه المسألة تتطلَّب نظرة أخرى قبل سبتمبر.


وأخيرا، هناك سوريا.. أعتقد أن مصر يجب أن تعلن بوضوح أكبر عن أنها لن تسمح بسقوطها وتفتيتها وتقسيمها تحت أي ظرف، مهما انطوى ذلك على مُجاهَرة أكبر بتأييد الرئيس السوري بشار الأسد الذي يعمل على عدم سقوط نظامه وعدم تفتيت سوريا بالتالي، ومهما أثار ذلك التأييد حفيظة قوى إقليمية عربية أو غير عربية أو قوى دولية كبرى. فباختصار شديد، سقوط سوريا وتقسيمها أخطر على مصر من أي تطوُّر إقليمي آخر، والدول يجب أن تعمل لتحقيق مصالحها مهما أغضب ذلك الآخرين.


رشة ملح كبيرة، ذات ثماني ذرَّات، وستختفي الـ 30? عندي بالكامل.