التوقيت الإثنين، 23 ديسمبر 2024
التوقيت 09:07 ص , بتوقيت القاهرة

توازن القوى مع الإسلاميين

ما المحصلة الإجمالية للصراع بين الإسلاميين وخصومهم اليوم؟


قبل أن نُجيب عن هذا التساؤل نُسارع إلى القول بأننا نعني هنا الصورة الكبيرة. ننظر إلى الأمور بعيون طائر محلق في مدى الزمان والمكان، لا بمنظور نملة تخطو على سجادة فارسية فيستحيل عليها تبين رسومها المتداخلة أو إدراك تصميمها الكُلي.


الصورة الكبيرة كما يلي: 
منذ الرُبع الثاني من القرن العشرين ظهرت حركة دينية/ سياسية في مصر- كرد فعل على سقوط الخلافة العثمانية وتمدد الاستعمار الغربي- تنادي بالشريعة الإسلامية أساسًا للقانون والنظام العام، وتتبنى الرابطة الإسلامية مناطًا للانتماء. هذه الحركة كانت لها أصداء واسعة في العالم الإسلامي. هي واجهت- منذ نشأتها الأولى- تيارًا آخر لم يقبل بالفكرة الجوهرية التي ارتكزت عليها وبشرت بها (تحديداً: أن يجري تنظيم المجتمع والقانون على أساس من الدين وحده).


منذ هذا التاريخ البعيد وحتى اليوم اشتعل أوار الصراع بين أصحاب هذا الاتجاه (الإسلاميين بفرقهم ونحلهم)، وبين خصومهم (العلمانيين بتنويعاتهم وأطيافهم المختلفة). حلبة الصراع هي المنطقة الممتدة من شواطئ الأطلنطي وحتى بلاد الهند التي يقطنها أكبر عدد من المسلمين بعد أندونسيا. لم ينج بلدٌ أو مجتمعٌ في هذه المنطقة من آثار هذ الصراع الطاحن الذي كان- ولا يزال- المحرك لحروب أهلية وانقلابات دموية وفتن مذهبية وصراعات إقليمية ودولية.


إنه صراع طويل المدى لا يلبث أن يذهب في وهم أحد طرفيه أنه حسمه لصالحه، حتى تدور عليه الدوائر وينقلب الميزان. في الخمسينيات والستينيات بدا- لوهلة- أن العلمانيين ينتصرون ويتقدمون، وأن الإسلاميين في موقف الدفاع. ثم جاءت هزيمة 67، وبعدها الثورة الخومينية في 1979 لتقلب الوضع.


لماذا لا يُحسم هذا الصراع؟ 
هذا سؤال مهمٌ وإن ظهر بسيطاً وبديهيًا.


مرجع تطاول هذا الصراع وتعدد جولاته هو الأصل الذي انطلق منه. لا يتعلق هذا الصراع بأرض أو ثروة، أو حتى بمُلك أو سُلطة. إنه صراع بشأن فكرة. صراعات الأفكار هي الأطول والأكثر دموية ووحشية والأصعب في حسمها. محور هذه الصراعات هو كيفية تنظيم حياة الناس، ومصدر شرعية الحُكم، والأساس الذي يقوم عليه القانون والنظام العام. بكلام آخر: الطريقة التي يحيا بها الإنسان.


الصراعات الأيدلوجية الكبرى التي تنتمي لتلك الفئة لا تُحسم على صفحات الجرائد أو في أروقة الجماعات أو على منابر المساجد والكنائس. هي تستحيل صراعات سياسية ممتدة، يجري فيها حشد كل عناصر القوة- بما فيها العسكرية- أملاً في تحقيق النصر. في بعض الأحيان، ينجح طرفٌ في حسمها نهائيًا بالقضاء على الفكرة التي يتبناها خصمه قضاء مبرمًا، مثلما حدث في نهاية الحرب الباردة بانتصار الليبرالية على الشيوعية. في أحيان أخرى، يجري اجتراح فكرة جديدة تلغي الفكرتين المتناطحتين وتحسم الصراع وتطفئ ناره على ما حدث في الحروب الدينية في أوروبا في القرن السادس عشر، التي انتهت إلى تدشين مبدأ إخراج الدين من الصراعات السياسية، والإقرار بالدولة (لا الكنيسة الكاثوليكية) كأساس للسلطة والسيادة على إقليم من الأقاليم.


في كل الأحوال، لا تُحسم هذه الصراعات إلا في مدى زمني طويل وعبر جولات متتابعة من الصعود والهبوط في حظوظ الأطراف المتصارعة.


ولأن صراعات الأفكار هي في جوهرها حروب سياسة، فإن ميزانها يُحسب بالمعيار الوحيد الذي تعترف به السياسة: القوة. في صراعات الأفكار هناك دائمًا توازن للقوى. على أن هذا التوازن يختلف قليلاً عن توازن القوى في حالات الصراعات القومية ونزاعات المصالح. هذا التوازن لا يأخذ في حسابه فقط ما يتجمع لكل معسكر من أسباب القوة المادية، وإنما يضع وزنًا كذلك لما في عقول الناس من أفكار.


لا تنس أنه في النهاية "صراع أفكار". أي أن ساحته الأولى هي أدمغة البشر وقلوبهم. وعيهم وشعورهم العام. آلية الصراع هي حشد أكبر عدد من "الأدمغة" في صفك. الأهم: أن تصبح الفكرة التي تتبناها وتدعو لها شيئًا متماهيًا مع الوعي العام للناس. لا يستوحشونها أو ينفرون منها، بل يألفونها ويميلون إليها باعتبارها الأقرب إلى منطق الأمور وطبيعة الأشياء كما يرونها ويشعرون بها وتقر في أذهانهم وضمائرهم.


لنعد إلى السؤال الذي بدأنا به الكلام: ما الصورة الإجمالية لتوازن القوى بين الإسلاميين وخصومهم اليوم؟


لا نقول جديدًا إذا أشرنا إلى أن الإسلاميين يتقدمون في ساحات ويخسرون أخرى. قلعة الإسلاميين الكُبرى اليوم هي الجمهورية الإسلامية التي تشن حربًا ضروسًا على أربع جبهات مفتوحة. ثمة قلعة أخرى- بلون مختلف- في اسطنبول. هناك حصون ومعاقل متناثرة باتساع المنطقة من شمال نيجريا وحتى باكستان.


الحقيقة الأولى إذن أن الصراع طويل ومستمر ومضنٍ ومرير. يخوضه الطرفان كرًا وفرًا، إقدامًا وإدبارًا، دحرًا وكمونًا.


الحقيقة الثانية أن توازن القوى، بالمعنى الذي ذكرناه للتو، يميل- حتى هذه اللحظة- لصالح الإسلاميين لا خصومهم. ما زال الوعي العام في المنطقة، ولابد من مصارحة أنفسنا بذلك، يتقبل المقولات الأساسية للإسلاميين ولا يرفضها كُليا أو يلفظها على أساس مبدئي ( مثلاً: أغلب استطلاعات الرأي التي أجراها PEW وغيره من المراكز الموثوقة تعكس في بياناتها ميلاً حاسمًا لصالح تطبيق الشريعة في البلدان العربية الرئيسية).


الحقيقة الثالثة أنه ما زالت هناك فرصة لتعديل هذا التوازن لسببين جوهريين:


1. الإسلاميون في حالة صراع ضارٍ فيما بينهم. إنه صراعٌ وَضَعَ مجاذيب الشيعة في مواجهة مهاويس السنة. لن يكون من شأن هذا الصراع استنزافهما معاً فحسب، ولكنه- وهذا هو الأهم- سيخرج إلى السطح أكثر النوازع دموية وانحطاطاً لدى كل منهما. على المدى البعيد، وبالمنظور الأوسع، هما يخسران معاً "أدمغة الناس وقلوبهم" التي تُشكل هدف الصراع ومادته في آن.


2. أن الإسلاميين، وكنتيجة لتدافع أحداث الربيع العربي، جُربوا في السلطة في مصر، فكان أن انفض الناسُ عنهم بعد أن خبروا بأنفسهم خواء ما يبشرون به، وخطورة ما يدعون إليه. وهذا حدثٌ فارق قد يكون له تبعات كبيرة وممتدة على توازن القوى بين الإسلاميين والعلمانيين في المنطقة بأسرها، لأنه إذا لم يكن لدى الإسلاميين ما يعدون به الناس سوى الداعشية والخمينية فهم في مأزق كبير.


في المُحصلة، التوازن بين الإسلاميين وخصومهم قابلٌ للتعديل في هذا الاتجاه أو ذاك. الصراع لن يُحسم في جولة واحدة. لابد أن نتذكر دومًا أن مادة الصراع هي الناس أنفسهم، ومحله الأدمغة والقلوب. في صراع كهذا لا يكفي أن ترفض فكرة خصمك وتشوهها وتدحضها. ينبغي أن يكون لديك أنت فكرة كُبرى بديلة، تُبشر بها وتنافح عنها. بقدر تماسك هذه الفكرة البديلة، وبقدر تحقيقها لنجاحات فعلية، يكون إيمان الناس بها ودفاعهم عنها ورفضهم لما سواها من أفكار.