التوقيت الجمعة، 22 نوفمبر 2024
التوقيت 09:35 ص , بتوقيت القاهرة

الغلاء وحجاب النساء

من كام يوم وأنا برا البيت شعرت بالحاجة إلى دورة مياه، فمثانتي ستنفجر، كما أني لست من هواة الرسم السريالي على جدران المدينة، فظللت أبحث عن دورة مياه في المنطقة المحيطة إلى أن وجدت واحدة غير آدمية أسفل أحد الكباري، ولكني كنت مضطرا، دخلت وانتهيت من المهمة، وأثناء خروجي لاحظت أنه مكتوب على الباب المتهالك: "لن ينتهي الغلاء ما لم تتحجب النساء".


شعرت بالاندهاش، الناس بتعلق كسلها وتخلفها وفشلها في العمل والإنتاج والتحضر الإنساني بشيء جانبي لا علاقة له بأصل المشكلة، حتى لا تُحمّل نفسها مسؤولية ما يحدث.


على فكرة بلد زي اليمن كل النساء فيه بين نقاب وحجاب وشادور أسود، ويتزوجن مبكرا، وبيطبقوا الشريعة وبيقطعوا الأيدي، ورغم هذا فهي بلد شبه فاشل وممزق ويخضع لحروب أهلية وطائفية لا تنتهي.


الصومال، بلد إسلامي آخر لن تجد فيه امرأة غير محجبة، بل قرأت أن شباب المجاهدين هناك منعوا النساء من ارتداء مشد الصدر "bra" لأنها تعطي مظهرا زائفا لشكل المرأة. والإسلام نهى عن الخداع.! والحل أن تلف قطعة قماش سميكة حول صدرها ليكون منبطحا! ورغم ذلك حدثت هناك مجاعة مات فيها مئات الألوف. إضافة إلى أنها بلد لا ينعم فيها أحد بأبسط الحقوق في الحياة.. فما علاقة حجاب النساء بذلك..؟!


طيب 30% من إنتاج الحبوب في العالم تنتجه الولايات المتحدة الأمريكية وحدها. وتتربع الصين والاتحاد الأوروبي وروسيا وأمريكا على قائمة إنتاج القمح، وهي دول ما بين بوذية أو مسيحية أو لا دين لها. لكنّها تحترم قيم العمل والمهارة والبحث العلمي والتنمية.. فما علاقة الحجاب بإنتاج السلع.


أجود أنواع المراعي والأبقار والماعز ومشتقات الألبان من زبد وجبن موجودة في بلاد الغرب الكافر، مثل نيوزيلاندا والدنمارك وهولندا!


السودان، يحكمه عمر البشير "إخوان مسلمون"، وهي دولة تطبق الشريعة بمفهوم الحدود، ولا توجد بها امرأة غير محجبة وهناك عقوبة لمن ترتدي البنطال أربعين جلدة، ورغم ذلك انفصل الجنوب الغني بالنفط، وهناك حروب عرقية في دارفور شرق البلاد وحدثت مذبحة مات فيها على أقل تقدير نصف مليون سوداني ارتكبتها ميليشيات "الجنجويد" بمساعدة خفية من الدولة من أجل إبادة عرقية للقبائل الإفريقية حتى لا تطالب بالانفصال، مع الملاحظ أن كلا الطرفين المتقاتلين في شرق السودان مسلم سني يطبق الشريعة..!


ورغم ذلك فهي بلد متخلف ويمتلئ بالمشاكل الاقتصادية والسياسية.. فما علاقة الحجاب إذن..!


لو طبقنا المعيار الذي وضعته الآية القرآنية: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ..) لوصلنا لنتائج صادمة.. فالغرب وحده هو من يتمتع بتلك البركات. نفهم من كدة أنهم اتقياء..! لو أن التقوى هي احترام الإنسان وتنمية الأرض واستغلال الموارد التي منحها الله لنا وحسن تدبير الكون وفهم السنن الكونية، التي قال الله عنها: "وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا "، فأعتقد أننا بعيدون كل البعد عن التقوى.


وخلال 57 دولة إسلامية تنضوي تحت منظمة المؤتمر الإسلامي، تجد أن أكثرها رفاهية وتقدما هي ماليزيا وتركيا. وتركيا تعتمد نظاما سياسيا واقتصاديا يقوم على العلمانية مع الاعتزاز بالإسلام الحضاري. وتلك الصيغة هي التي قفزت بها ضمن أكبر 20 اقتصادا في العالم. وماليزيا من أشرف على آخر تعديل دستوري فيها كان رجلا بوذيا.


في عهد الرسول مروا بأوقات كثيرة من الفقر والشقاء والجوع، ولم يكن لمظهر النساء أي دور. وعندما منعهم الرسول من تلقيح النخيل ظنا منه أنه أمر غير ضروري، لم ينتج في ذات العام، ثم اعتذر النبي عن قلة خبرته الدنيوية وقال أنتم أعلم بشؤون دنياكم. لكن المستفاد هنا أن النخل لم يخرج الثمر كرامة لمكانة الرسول. إنما النخل ينتظر من يضع له اللقاح.


وفي غزوة أحد، كانت الصحابية أم سليم وعائشة زوج النبي تنقلان قرب الماء على ظهورهما لسقاية المجاهدين، وكانتا مشمرتين، فالصحابي اللي بيروي الحديث بيقول حتى رأيت خدم سوقهما. يعني رأيت الخلخال. من سرعة الحركة والانتقال بين المقاتلين، والاختلاط بهم، بل والحديث معهم، لم تكن القضية هي خلخال أم سليم والسيدة عائشة، ولم يكن لذلك أي دور في الموضوع.. ولو كان النبي وصحابته مهووسين كانوا خلوهم في البيوت بدل ما ينزلوا معاهم الحرب يتبهدلوا ويختلطوا بالرجال ويمشوا حافيين ويجروا بين الصفوف "مشمرتين" ومعرضتين للأسر والوقوع في يد الكفار.


ورغم أنه قتال بين المسلمين وفيهم رسول الله ومعه خيار الصحابة إلا أنهم انهزموا أمام الكفار. وما هزم المسلمين هو الطمع في الغنائم، وحب الأموال، وسرعة ترك المواقع الحصينة لحماية الجيش. فلم يعصمهم إيمانهم وصلواتهم ووجود النبي بينهم من الهزيمة. لأن النصر بالأساس لمن احترم قواعد الحياة وسنن الكون وأحسن العمل، ثم توكل على ربه ليتمم الخلل ويجزيه في الدنيا والآخرة.


لن تتدخل السماء لنصرة إيمان الكسالى أو الأغبياء الذين لا يجتهدون في عمل دءوب لإحراز النصر. بل تتدخل الأرض لنصرة من احترم تقاليدها ومبادئها. ووقتها تكون الأرض محايدة فلا تنظر لعقائد البشر ولا تحابي أحدا، بل تنظر إلى عملهم ومدى أحقيتهم في نتائج مبهرة أو نتائج مخيبة للآمال.


ولو رصدنا الأحوال في مصر، في نظرة سريعة للماضي القريب نكتشف أن مستوى الغلاء وتضخم الأسعار والانفلات الأخلاقي كان أقل بكثير في الستينات والسبعينات، رغم أنها عهود الميكروجيب والميني جيب، ثم بدأ الحجاب في الظهور منذ الثمانينات حتى كادت نساء مصر كلهن أن يرتدوه ووصل إلى فئات بعيدة عنه مثل مذيعات التلفاز ومضيفات الطائرات وموجة الفنانات المحجبات، إلا أنك لا تجد تحسنا في أحوال مصر، بل ظهرت وتضخمت ظواهر أخرى سيئة مثل التحرش الجماعي وزيادة الغلاء والغش في السلع وضياع الذمم وتراجع مستوى الضمير العام وانتشار الكذب واللصوصية والتزوير.


عندما تحدث الله عن الملابس في القرآن قال (يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ) الأعراف: 26


لباس التقوى ذلك خير. هو الأفضل والأهم وهو المقصود من الدين ومن وصايا الله، وهو معيار الإيمان. والتقوى هي القلب والعقل والروح، هي الحضارة والعمل والعاطفة والأخلاق. قال الله (إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) يريد الله أن نذهب له بقلوبنا وليس بملابسنا الأنيقة وظواهر أجسادنا. ووظيفة الملابس هي أن نخفي بها سوءاتنا. أي ما يسوءنا أن نكشفه أمام الناس.


بالمناسبة، الرسول قال في حديث واضح وصحيح "عورة الرجل من سرته وحتى ركبته" .. والرسول هو أول من خالف تلك القاعدة في أكثر من موضع. فمثلا عندما كانوا يحفرون الخندق كان يصعد ويهبط متحمسا حتى رأى الناس بياض فخذيه.. وعندما دخل عليه أبو بكر وعمر في مرة كان كاشفا عن ساقه وفخذه. ولم يعتدل إلا بدخول عثمان. رجل تستحي منه الملائكة. لكن في الحقيقة هو زوج بنته الذي يحب الاعتدال أمامه. فلو كانت الفخذ عورة لما كشفها الرسول أمام أبي بكر وعمر.


ودخل قوم غرباء يصلون خلف النبي في المسجد وكانت عادتهم أنهم يعقدون طرف ثوبهم في وسطهم، فلم يرد النبي أن يشق عليهم أو يخالف عادتهم، فأمر النساء أن تتاخر قليلا في الرفع من السجود حتى لا يرون الرجال بهذه الهيئة المكشوفة (كانت النساء تصلي في مسجد النبي خلف صفوف الرجال في ذات المكان دون حائل، فالمسجد كان مختلطا).


طيب كيف نوفّق بين حديث الرسول الذي يقول شيئا، وعمله الذي يخالف قوله.. هنا يتدخل الفقه. الفهم. فهم مقاصد الدين وطبيعة أوامر الرسول وأهداف الإسلام. الرسول قال عورة الرجل من سرته إلى ركتبه من باب الكمال. وليس من باب الإلزام. وهو أمر بشري يخضع للآداب العامة، وليس أمرا دينيا عباديا ملزما للجميع. وبذلك فالأمورالدنيوية والبشرية تخضع في المقام الأول لتحقيق المصلحة وتغير الظروف وأعراف المجتمع. وطالما لم يحدث من الأمر ضرر فلا بأس.


أضف لذلك أن الرسول يعلم أنه لم يأت "بموضة"، ولكنّه أتى بهداية لما في الصدور. وهو أهم وأعظم من تفاصيل عابرة غير مهمة يجب ألا نقف أمامها كثيرا أو نثير جدلا حولها أو نضعها أكبر من حجمها الحقيقي في تعاليم الإسلام الواسعة، وكان الرسول أول من تجاوزها ولم يدقق أمامها.. وبذلك فلا وجود الحجاب يأتي بالخيرات ولا غيابه يأتي بالخراب. بل بالتقوى والعمل.