التوقيت الإثنين، 23 ديسمبر 2024
التوقيت 02:32 ص , بتوقيت القاهرة

نقاش مؤثَّـم

يعيش المصريون منذ فترة أغرب حالة جدالية قد يحياها مجتمع إنساني، وهي حالة التفاوض النهاري بين قطبين رئيسيين يمثلان طرفي الانقسام السياسي بالبلاد، وتدور النقاشات حول آثار المعارك الدامية التي خاضها نيابة عنهما آخرون بليلٍ، نتج عنها شهداء للوطن وصرعى من الإرهابيين.


وهي حالة غريبة للغاية، يتخذ فيها غالبية المجتمع ستارا واقيا خلف فئة من أبنائه من قواته المسلحة والشرطة، يبكيهم بسبل عدة بين دموع منهمرة وتمتمة الشفاه، ثم يتبارى في النقاش حول مدى مشروعية دفاع قواته المسلحة وشرطته عن أمن الوطن والمواطنين.. ويتبارى فيها الطرفان حول إثبات مدى صواب وجهة نظرهم ورجاحة اختياراتهم وتمركزهم السياسي والفكري.


 حالة النقاش ذات السمت المتحضر والجوهر القميء المغلف بكم ضخم من الإفيهات الساخرة والعبارات المحبِطة للطرف الآخر، تخفي وراءها الحرص والاحتراز لما قد يخفيه المُحاور من توجهات للعنف والإرهاب، قد تطاله إن وصل النقاش للصدام واشتهر أمره، ويخشى فيها كذلك نصير الإرهاب المتخفي وراء شعارات دينية وثورية، أن تطاله وشاية بحقيقة توجهه، تجعله معروفا لدى الجهات الأمنية.. فيلجأ الطرفان إلى اللجوء للابتسامات الصفراء وإخفاء مكنونات الصدور، ثم التوجه لإفراغ شحنة الغضب وصب اللعنات على الخصوم بمواقع التواصل الاجتماعي.


والنقاش من المفترض أن يكون بين ندين يحمل كل منهما وجهة نظر، يعرضها للآخر، على أساس من العرض الصادق ذات الأسانيد المنطقية، وكذا الإيمان الحقيقي للفرد بما يحمله من آراء ووجهات نظر، عسى أن يؤدي النقاش إلى طريق من طرق الاتفاق أو الإثراء المتبادل بالمعلومات.


لكن حالة الجدل اليومي التي يحياها المصريون مكايدةً ومماحكة، يغلب عليها ما زُرع في المصريين عبر عقود من فقه المراوغة والكذب وتجميل القُبح بسيف المقدس، والذي كان أحد روافده الكبرى هو التيارات الدينية بشيوخها ومدارسها، تجعل من النقاش حالة مستمرة من المراوغة والكذب عديمة الجدوى، فالأمر يبتعد عن النقاش والتحاور بطبيعته لأنه بداية بين عدوين، وثانيا لأنه تدور في الخلفية حالة حرب بين ممثلي الطرفين تسيل فيها الدماء باستمرار، والنقاش من المنطقي أن يسبق الدماء، لا أن يليها، وإلا لصار تفاوضا.


حالة حوارية متفردة أتقن فيها أحد الطرفين حالة ادعاء الجنون، والسبق باللطم، وتزييف الحقائق بخلاف ما تجري به الأحداث، فأي نقاش يُدار اليوم في المسألة السياسية، والتي أصبحت جنائية على الدوام، بحكم سيل عمليات القتل والاغتيال والتفجيرات والاختطاف، صار سيلا من الأكاذيب المتعمدة التي هي بدروها جوهر المنهج السياسي لأصحابها، والتي تجر وراءها سلسلة من التفنيدات الساذجة والتشكيكات البلهاء والنظريات التي لا تصدر إلا من عقل طفل صغير أو معتوه أو مدع للجنون!


لكن ما هو أكثر غرابة هو استمرار وجود التواصل الاجتماعي، ولو من "تحت الضرس" بين الطرفين محل الحديث، حالة لم تنقطع من التعاون الإنساني على مستوى العمل والجيرة والقرابة والمصاهرة، لم تنهها الصراعات والنقاشات الحامية وما خفي في الصدور من معاداة، تجعل أحد الطرفين يزرع للآخر القنابل طوال طريق!


بل أنه بنظرة عابرة نحو أماكن وقوع تفجيرات عن طريق الخطأ في منازل منتمين للإخوان، ستجدهم لا يعيشون بمعزل في الصحارى، بل أنهم يقطنون وسط أحياء سكنية، ويتعايشون مع جيرانهم بشكل اعتيادي، أثناء إعدادهم للمتفجرات ونقلهم الأسلحة والذخائر، يلقون التحية على هذا ويبادرون ذاك بالسؤال عن أحواله، وربما يؤمون جيرانهم في الصلاة بالمسجد.


قد يبدو هذا وكأنه منحى اجتماعى يبعد عن العنف ويؤثر السلم، ولكن بنظرة نحو الشارع المصري في مجمله، نجده يحمل صراعا اجتماعيا غير منكور، يحمل سمات عنف لفظي وجسدي، ولا يوحي بهذا التسامح المفرط نحو القتلة.. وربما لا نرى لغة التهديد إلا لحظات مرور جنائز الشهداء.


تأخُر العقاب الجنائي إلى درجة الموات، أكسب تيار الإرهابيين قوة وثباتا، وأصاب فئة من المصريين بالتشكك أو بدرجة من التعاطف أو بفقدان الحماس نحو الموقف الوطني، واستبداله بالتواصل الإنساني مع الخصوم، الذين يتعايشون معهم يوميا، ساعد في خلق ما سبق آلة إعلامية هادرة بالخارج والداخل، بالإضافة للعمل الدءوب لأنصارهم بالداخل، ليس بالشارع بل بالمؤسسات الحكومية وقطاعات العمل المختلفة، وهي خطة مغايرة لما كان عليه الحال طوال تاريخهم وحتى 30 يونيو، أن يكون العمل داخل المؤسسات فقط وبعيدا عن الشارع. 


حتى تبدل حال الإسلاميين من مرحلة الخوف من المجتمع قبيل 30 يونيو إلى أن صار لهم قاعدة حوارية ثابتة، وصوت مسموع، وتباه بالقوة، وموقف يجبر الطرف الآخر الذي من المفترض أنه يمثل القاعدة الشعبية والوطنية- يجبره على الرضوخ لسماع وجهة نظر الإرهابيين، وتبريراتهم لماذا نقتل أبناءكم؟!


وأملهم الدائم أن يكسبهم موقعهم الجدلي المستمر منذ 30 يونيو 2013 وحتى الآن، كرسيا تفاوضيا كنِّد للدولة وكفصيل استطاع الوقوف في وجهها طويلا دون أن ينهزم، عبر تقديم إرهابيين جدد كل صباح، وهو ما يعني أن تتقزم الدولة وتتحول بدورها إلى مكافئ مساوٍ للإسلاميين وفي مقدمتهم الإخوان، الذين سيتباهون حينها بنضالهم الناجح المثمر.


على الخط الموازي يجتهد مجرمو الإخوان الهاربون في طرق أبواب الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بصفتهم رجال دولة في صورة البديل الشرعي.. في حين يكمل إخوان الداخل ورفاقهم الثوريون استكمال فكرة أن العسكريين لا يستطيعون خلق كيان مستقر، وذلك بالتوسع في أعداد ونوعيات العمليات الإرهابية.. لاحظ مثلا الإصرار غير العادي على إلغاء قانون التظاهر؛ لإفساح المجال للإرهابيين ورفاقهم باستكمال عملية "رمي الجتت" بمبررات ديموقراطية وتحت مظلة قانونية، لتوريط الدولة في احتكاكات مع الإرهابيين، ثم المطالبة بمحاكمتهم، ثم ترويج صورة الوضع المتوتر إلى الخارج باستمرار. يندرج هذا المثال السابق في إطار استمرار الصراع، حول الأجدر بإقامة الدولة القوية المستقرة.


حالة ادعاء الجنون وتقديم الافتراضات السياسية الخرافية، التي أجاد نشرها مندوبو الإخوان المنتشرون وسط المصريين بالمصالح والدواوين والقطاع الخاص، جعلت مستوى النقاش والآراء المتبادلة، تسقط في مزيد من التفاهة والسذاجة، ربما كامتداد طبيعي لمستوى نقاشات وافتراضات سائدة منذ يناير 2011، فصارت المعطيات بدءًا من سذاجة عنوان "دعم الشرعية" وحتى الشعب الثائر لاستعادة الشرعية، إلى وصف إرهابيي عرب شركس، ومحمود رمضان قاتل أطفال الإسكندرية، ومن انفجرت بهم قنابلهم أثناء تفخيج المنشآت بالشهداء والأبطال، وتُقبل عزاؤهم في افتخار بدلا من الخزي، بل والتوعد بالقصاص لهم.. صار ما سبق افتراضات مطروحة لها من يصدقها ويقبلها أو لا يثيره تجاهها غضب، ويتعامل معها باعتيادية وألفة، ودون توقف أمامها بالنقد.


النقاش أو المناقشة بأحد تعريفاتها اللغوية، تعرف بكونها: الاستقصاء في الحساب، بحسب ما أورد "عبد القادر الرازي" في "مختار الصحاح، وبنظرة بسيطة إلى ما تصير إليه نقاشاتنا العقيمة الجارية بيننا وبين شيَع الإسلاميين، تجدها تسير في اتجاه اصطناع الجنون والاستباق بالشكوى وتحوير الحقائق، وإنكار الجرائم ولصق جرائمهم بخصومهم، ثم المطالبة بمحاسبته بالداخل والخارج، فيصير ما يحدث ليس استقصاءًا ولا حسابا، وإنما العكس تماما، من مراوغة وخلط للأوراق وتغييب العقل وإزهاق للمنطق، بهدف الوصول لوضع التساوي بالدولة أو البديل لها إن أمكن.


قد يرى البعض أن مثل هذه النقاشات من الجينات الحضارية الكامنة تحت جلود المصريين، وقد يراها البعض نوعا مما يطلق عليه في ثقافتنا "لؤم الفلاحين" وربما هي عودة طبيعية للارتكان نحو الدولة، وعودة الثقة بها في حسم أمورها تجاه فئة من مواطنيها الضالين، اعتمادا على أن الدولة وحدها هي المنوطة بالمحاسبة.


لكن على كل حال‘ فإن اطمئنان المواطن للإرهابي وتقبله للنقاش معه، يعنى نجاح الإرهاب في اكتساب خطوة.  وعلى الدولة بدورها ألا تستمر في الارتكان للزمن، لأنه كما يمنح الدولة الثبات من خلال مواجهتها للمِحن وتخطيها للمصاعب، فإن الزمن أيضا عدو أصيل للذاكرة الوطنية، فنحن مجتمع لا يسعى للحساب، ولا يحب التذكير بالماضي إلا للمعايرة.