التوقيت الإثنين، 23 ديسمبر 2024
التوقيت 05:02 ص , بتوقيت القاهرة

وهم المصالحة مع الإخوان (2)

في المقال لأول ناقشنا فكرة المظلومية المتكررة للإخوان، والزعم بأن اقصاءهم المتكرر من الساحة السياسية هو  قرين الاستبداد، ووضحنا أن الإخوان كانوا دائما من المجموعات التي لا يمكن استيعابها بدون مشاكل  في الحياة السياسية، وأنه حتى في الحقبة الليبرالية، فإن تورط الإخوان في العنف والإرهاب كان واضحاً للدرجة التي تسببت في حظر الجماعة عام 1948 أي في عهد مؤسسها وبعد عشرين عامًا فقط من تأسيسها.

وهذه المرة سنناقش فكرة إدماج الإخوان من زاوية مختلفة لاعلاقة لها هنا بالحكم على طبيعة منهجهم وأفكارهم، بل بالزعم الآخر المتعلق بضرورة إعادتهم للحياة السياسيية لتحقيق مناخ ديمقراطي صحي.

محاولة الإخوان التأكيد على أن وجودهم في المعادلة السياسية ضروري  هو أمر طبيعي، فهم تنظيم جزء من أيديولوجيته الغائية امتلاك السلطة والبقاء فيها للأبد وصبغ حياة المجتمع كله بصبغتهم ثم إقامة دولة الخلافة والتمدد في اتجاه بقية الدول الإسلامية، وأخيرا التحول إلى نموذج لبقية العالم، مشروعهم يحتاج إلى مساحة سياسية وفكرية واجتماعية؛ ولهذا فإنهم في البداية أصروا على الاستحواذ على السلطة، ثم مارسوا الإرهاب للعودة إلى السلطة، ثم يمارسونه الآن للحصول على جزء من السلطة ضمن تسوية.

تصرفاتهم (بمعزل عن تأييدها أو مشروعيتها) منطقية سياسيًا. الشيء غير المنطقي  هو سعي أطراف أخرى  تُطلق على نفسها قوى مدنية إلى رهن اعترافهم بالعملية السياسيةبوجود الإخوان أو الامتناع عن المشاركة فيها لحين تواجدهم. فهل عودة الإخوان للعملية السياسية بالفعل سيساهم في الاستقرار السياسي؟

هذا ما يتم الترويج له إخوانيًا عبر مجموعات من السذج على طريقة (لاديمقراطية بلا إخوان ) فهل الحجة سليمة فعلا؟

الحجة الأولى التي يقولها هؤلاء هي أن الإخوان هم التنظيم السياسي الأقوى في مصر، فقواعدهم التنظيمية موجودة ومنتشرة، وبالتالي فإنه إذا أردنا نظاما ديمقراطيا وقوة قادرة على مواجهة السلطوية فإن البديل الوحيد القوي هو الإخوان.

حسنا سنفترض صحة هذه الحجة، أيهما أفضل إذن للأحزاب المدنية ولمشروعها، السماح لكل اللاعبين السياسيين بفرص متكافئة عبر منع العمل السري والتجييش الديني ؟ أم إدارة اللعبة في غياب القواعد بحيث يُمكن أن يزايد عليهم الإخوان بالمزايدة الشهيرة (أنت جزء من نظام الدولة مهما اختلفت مع السلطة فخلافك لن يكون جذريا، لهذا فأنت معارض فالصو، أما نحن فمعارضون أقحاح مستعدون للمطالبة بهدم المنظومة تماما وإعادة بنائها، ومستعدون لتبني أكثر الأفكار ثورية حتى لو كانت تفكيك الجيش والشرطة والقضاء وإعادة تأسيسهم وهو ما لن تجرؤ على المطالبة به).

سنوات المعارضة الطويلة للقوى السياسية المصرية أثبتت أن الإخوان يربحون بالمزايدة لسبب بسيط أنهم ليس لديهم سقف للمزايدات لأن ليس لديهم ما يخسرونه؛ فهم لا يعتبرون الدولة المصرية عموما كيانا يجب الحفاظ عليه إلا إذا ما كان في خدمتهم وإلا (فطز في مصر)، فهل المطلوب هو إعادة الإخوان بدون أي ضوابط بحيث يسيطرون على المشهد السياسي بالتجييش مرة أخرى أم أن المطلوب إعادتهم بضوابط سيظلون يزايدون لإلغائها واحدا بعد واحد، كما زايدوا على عمل كل اللجان والمؤسسات منذ يناير 2011 وحتى يوليو 2013.

الأحزاب أيضا هي الكيانات التي طالما اشتكت من أن حرية التنظيم تم تقييدها عليهم، بينما الإخوان استفادوا لأنهم يعملون في العمل السري، فهل رفض العمل السري أصبح الآن فجأة مفيدا للحياة السياسية؟ والأهم لماذا لا تستغل الأحزاب الفرصة وتنشط سياسيًا لملء الفراغ، لماذا تبدأ تصوراتهم عن ملء الفراغ بإعادة الإخوان كخطوة أولى؟

الإجابة لأن في الحياة السياسية المصرية أَلِف الجميع المعارضة في غياب مشروع، وهو نوع من المعارضة يعتمد على وجود سلطة بلا ظهير شعبي قوي، ولكنّها سلطة أقرب لدولة مدنية من جهة ويقابلها تيار ديني معارض قوي ومنتشر من جهة أخري، فيكون دور المعارضة العمل على تناقضات الطرفين للحصول على كرسي من هنا أو هناك، فيترشح في انتخابات يتم منع الإخوان منها لإكساب المنظومة شرعية في مقابل إعطائه بعض الامتيازات، وإلا فالبديل عقد صفقة للحصول على أصوات الإخوان في مقابل تمرير مكاسب لهم.

فلو أن هذا ما نريده فالمشكلة التي استدعي هؤلاء الإخوان لحلها لم تحل، أي أنهم لن يستطيعوا أيضا مواجهة السلطة في وجود الإخوان إلا بالتحالف مع الإخوان، ولأن الإخوان سيظلون وفق هذه المعادلة الفصيل الأقوى، فإن الضعفاء هم من سيتنازلون عن أفكارهم ومشاريعهم كما حدث من قبل، والنتيجة في النهاية أن يتحول الجميع إلى ذراع للإخوان في مواجهة السلطة لا غير، بما لا يترك مرة أخرى سوى خيار الدولة الدينية أو السلطة المستبدة.

الحل إذن يكمُن في معالجة المشكلة وهي ضعف القوى السياسية وهذا لا شأن له بضرورة وجود الإخوان بل بالعكس ربما تستفيد الحياة السياسية من حظر تنظيمهم.

والحجة الثانية أن العنف لن يتوقف إلا بعد المصالحة مع الإخوان وهي حجة كاذبة شكلا ومضمونا، فالعنف لم يتوقف بل تصاعد بعد عودة الإخوان للحياة السياسية، وكلنا نذكر كيف بدأ العنف بالاحتقان الطائفي في الخانكة مطلع السبعينات، فحادث الفنية العسكرية فالتكفير والهجرة، وكيف أن صالح سرية وشكري مصطفى كانوا وغيرهم من تلاميذ سيد قطب المخلصين، لم يمنع إتاحة الفرصة للإخوان العنف بل زاده، بل أنه كلما زاد انتشار الأفكار الإخوانية في المجتمع تدريجيا زاد التطرف وزادت الأعمال الإرهابية، فالأعمال الإرهابية لا تتوقف في وجود الإخوان سياسيا الا إذا كانوا وحدهم في السلطة وهذا ثابت بالتجربة من عمليات تفجير خط الغاز التي تواجدت قبل عهد مرسي ثم انقطعت لعام أثناء حكمه ثم عادت فور رحيله، أو الهجمات في سيناء أو الأعمال الإرهابية في أي مكان في مصر عموما، فالاستقرار إذن ليس قرينا  لوجود الإخواني في اللعبة، بل هو قرين بالاستسلام للإخوان ومنحهم السلطة المطلقة على طبق من ذهب.

والبديل لذلك إما إدماجهم دون أن ينفردوا بالسلطة وهذا سيعني استمرار العنف سعيا منهم لتقوية موقعهم أو إبعادهم تماما مما سيعني استمرار العنف لفترة أقل إلى أن يضعف ويتلاشى وهو الخيار الأكثر منطقية.

ثم أننا حتى لو تجاهلنا التاريخ فهل المهم هو وقف العنف في المطلق؟ أم وقفه على أساس نتيجة معينة؟ هل مثلا يهمك  بالدرجة الأولى  إذا اعتدتْ دولة أجنبية على أرضك بشن حرب عليك أن توقف القتال أم أن الأهم هو الحفاظ على حقوقك حتى لو تم دفع ثمن لهذا؟ بالطبع وقف القتال شيء مهم ولكن الأهم دائما هو تحقيق الهدف من المعركة والانتصار، صحيح أننا نتمنى أن ننتصر بأقل تكلفة بشرية ومادية، ولكن في النهاية فالانتصار هو الأولوية الأهم، وبالتالي فالمصالحة لن توقف العنف إلا بثمن سياسي  مفاده إعلان هزيمة وقبول سيطرة الإخوان على مساحة واسعة من الفضاء السياسي، أي بمعنى آخر قبول الموت البطيء بجرعات من السم على الموت برصاصة في الرأس.

المصالحة مع الإخوان إذن تعني العودة إلى المربع رقم صفر، تعني القبول بأن ممارسة الإرهاب ضد المواطنين يحقق نجاحات  سياسية، لدرجة أن ثمن العنف سيصبح مكافأة بتحقيق انتصارات وليس فقط نجاحات سياسية. وسيهز كثيرا من قناعة أهل مجند فقدوا ابنهم  بعنف الإرهابيين دفاعا عن الفكرة لأنهم سيشعرون أن دماء ابنهم ذهبت هدرا وهو ما سيضعف هذا المخزون الاستراتيجي من المواطنين المؤمنين بالدولة المصرية بالتأكيد، مما يعطي الإخوان مساحة أكبر.

الإخوان يجب أن ينتهوا من الحياة السياسية المصرية، سيستغرق ذلك وقتا، ولكنّهم في النهاية وعندما يشاركون لاحقًا، إذا ما شاركوا يوما ما، سيشاركون على أرضية رسمها الآخرون وأصبحت ثابتة راسخة، وذلك بعد أن يقوموا هم أنفسهم بتكييف أفكارهم وتوفيقها وفق هذه  المنظومة، وعندها يكون الثمن الذي دفعناه بكل هذه الدماء هو تحقيق الانتصار للحداثة.

المصالحة باختصار هي أن ندفع الثمن مرتين مرة بالدم والتكلفة البشرية والمادية ومرة بالتراجع عن تحقيق الهدف بعد كل هذه التكلفة واستمرار الدوران مع الإخوان في الحلقة المفرغة.

كسر الحلقة المفرغة هو إقامة منظومة ديمقراطية سليمة دون الرضوخ لابتزاز الإخوان إلى أن يقبلوا هم الانتماء لمصر، وإلى أن يقبلوا بشكل نهائي نبذ العنف إلى الأبد.

للتواصل مع الكاتب