التوقيت الأربعاء، 06 نوفمبر 2024
التوقيت 03:55 ص , بتوقيت القاهرة

إرادة القتال

"الجيش العراقي انهار أمام داعش لأن جنوده لا يمتلكون إرادة القتال".


هكذا تحدث وزير الدفاع الأمريكي آشتون كارتر. أضاف- في معرض تفسيره للتقدم السريع والمفاجئ لداعش في الرمادي الأسبوع الماضي- أن قوات الجيش العراقي لم تواجَه بقواتٍ تفوقها عددًا. الواقع أنها كانت تتفوق على قوات الدواعش المهاجمة في عددها وعتادها. ما حدث ببساطة أن المُقاتلين لم يكن لديهم إرادة للقتال.


أتفق مع هذا التفسير. بل ربما يتذكر القارئ ما أشرتُ إليه من قبل في هذا المكان من أن عزيمة الميلشيات -التي يتمطى رجالها في الشرق الأوسط طولاً وعرضًا- تفوق إرادة الجيوش النظامية. الميلشياويون ليس لديهم ما يخسرونه. هم مستعدون للموت من أجل "قضيتهم". الجيوش النظامية- في المقابل- تفتقر إلى هذه الروح القتالية. التراجع، والحال هكذا، حتمي. انتصار الميليشيات يصير مسألة وقت، لا أكثر.


ما الذي تعنيه إرادة القتال؟


إنها ليست مفهومًا بسيطًا كما يبدو الأمر في الظاهر. إرادة القتال ليست مرادفًا للشجاعة. ما نحن بصدده ليس "عركة" أو "خناقة" يحسمها الإقدام والمبادرة. لو كان الأمر كذلك لهان. ما نحن بصدده هو حرب، والحرب بدورها ليست بالتأكيد مُرادفًا للخناقة!


إرادة القتال معنى أعمق كثيرًا. معنى يتصل بحشد الناس وتنظيمهم وإلهامهم وقيادتهم للقيام بأخطر المهام على الإطلاق: الدفاع عن الدولة ولو بالموت في سبيل ذلك. إنها مهمة خطيرة ونبيلة في آن. هي تجسد الاختبار الأعلى لصلابة المجتمع وقدرته على التحمل والصمود وتحقيق الهدف.


وزير الدفاع الأمريكي لا يتهم الجنود العراقيين بالجبن والتخاذل. هو يتهمهم بما هو أنكى من ذلك وأشد وطأة. معنى تصريحه أنهم ليسوا جنودًا من الأصل. فالجيش يفقد معناه وكيانه إذا افتقر جنوده وضباطه لإرادة القتال. جوهر الجيوش هو الإرادة الجماعية للقتال. في غياب هذه الإرادة يصير الجيش- أي جيش- حشدًا من الرجال الذي يرتدون زيًا موحدًا، كفريق للكرة أو فرقة للموسيقى النحاسية. ما أسهل خلع هذا الزي إذا جد الجد وحانت لحظة المعركة.


لماذا يُهزم جيش كبيرٌ في عدده وعُدته، ويُسارع جنوده للفرار من الميدان؟


المؤرخ المصريّ الأشهر عبدالرحمن الجبرتي قدم تفسيره الخاص في كتاب «عجائب الآثار». وصف حال جيش المماليك إبان معركة الأهرام الفاصلة مع الجيش الفرنسي الغازي في 1798 على النحو التالي: «واجتمع الجند والرعايا والفلاحون، ولكن الأجناد متنافرةٌ قلوبهم، منحلةٌ عزائمهم، مختلفة آراؤهم، حريصون على حياتهم، مختالون في رئيسهم، معتزون بحجمهم، محتقرون شأن عدوهم، مرتبكون في رؤيتهم، مغمورون في غفلتهم، وهذا كله من أسباب ما وقع من خذلانهم وهزيمتهم».


الجبرتي وضع يده على الجرح. السر ليس في قوة العتاد أو شجاعة الرجال. السر يكمن في القدرة على تنظيم الناس وقيادتهم بصورة علمية. هذا ما يُطلق عليه «المؤسسة». وهو أمر لم تعرفه الدولة العربية المعاصرة سوى في المظهر والشكل.


قوة الجيوش المعاصرة هى نتاج لصلابة المجتمعات نفسها. الجيوش تمارس عملاً خطيرًا: القتل من أجل الدولة. رجالها يهبون هذا العمل حياتهم ذاتها. تنظيم الرجال للقيام بهذا العمل الخطير ليس شأنًا هينًا. تربيتهم على الإيمان بشيء قد يهبونه حياتهم إذا اقتضى الأمر ليست أمرًا يسيرًا. هذا التدريب وتلك التربية هما أخطر اختبار لقدرة المجتمع ومؤسساته على مواجهة تحديات قد تهدد البقاء والوجود.


الدولة العربية المعاصرة، وباستثناءات نادرة أهمها حرب العبور في 1973،  فشلت في ساحات المعارك لأنها لم تمتلك في أى وقت مؤسسات قوية ومستقرة يؤمن بها المجتمع ويسندها ويدافع عنها. مؤسسات تنتج جنودًا لا يخلعون بزاتهم العسكرية.


جيش العراق ليس ضعيفًا أو جبانًا. هو ليس جيشًا من الأصل!


اقرأ أيضا