أسئلة غبية حول الكروت الذكية
كنا في أحد البنوك الحكومية لعمل إجراء بسيط لا يتعدى نصف الساعة على أكثر تقدير.. ونحن من هؤلاء المصريين المؤمنين بأن البنك الوطني هو المضمون ذو التاريخ والعراقة والحاضر والمستقبل أيضًا.. ولا يهمنا زحمته ولا حاجة.. بالعكس ده زحمة يعني شغال.. يعني كل الناس بتتعامل معه.. نبقى أكيد صح.. وأكيد في مصر.. إلى هنا لا توجد مشكلة.
فجأة وبدون سابق إنذار جاءت جحافل من الناس سيدات ورجال وكأن "أوتوبيس" عملاقا قد أنزلهن وأنزلهم عند باب البنك.. دخلوا بأصوات عالية فرحة ومبتهجة يباركون بعضهم لبعض بالبشرى السعيدة وهي أنهن وأنهم سيحصلون الآن كلهن وكلهم على الفيزا.. وطبعا الفيزا بحرف الفاء.. طيب فليكن.. لكن السؤال هو: مَن كل هؤلاء؟ ولماذا جاءوا كلهم مرة واحدة؟ ولماذا يعرفون كلهم بعضهم البعض؟ سؤال غبي.. لأن أوتوبيس المصنع أنزلهم فعلا عند البنك وكلهم زملاء وزميلات في مصنع واحد.
قطعا المفروض ألا تكون هناك مشكلة.. لكن عدد هؤلاء العملاء كان أكبر بكثير من قدرة البنك، وبخاصة إذا أضفت نوعا آخر من العملاء الذين لا يستخرجون فيزا.. وبالتالي بدأت المشكلة.. خناقات وتزاحم وطوابير وأرقام للعملاء لا معنى لها وأولويات للواقفين في الطابور دون غيرهم.. ولكن وسط كل هذا الفقر في الهواء والصوت الذي يصم الآذان تجد لمحة مصرية أصيلة تجعلك تبتسم – لا بل تضحك وتقهقه غصب عنك: سيدة تتمكن من عبور الطابور بسلام وتخرج حاملة الفيزا بالفاء وتزغرد زغرودة فرحة.. وللللوللللللي هنقبض بالفيزا يا اولاااااد.
ذكرتني كلمة (فيزا) بأحمد حلمي وإيمي سمير غانم في فيلم (عسل أسود) وأبلة مرفت، وأبلة نفين – من غير ياء وبالفاء العربي – والبروفة.. واكتشفنا أننا اليوم في البنك عبارة عن (فيزيتورز) أي بالانجليزية (visitors) وتنطق (fizitors).. يعني لم يكن أبدا من الحكمة أن يأتي عملاء البنك اليوم إلى البنك.. فاستخراج تلك البطاقات الذكية لهذا العدد الكبير من الناس عملية صعبة ومجهدة وتحتاج وقتا.. سألنا أحد موظفي البنك: هل نذهب اليوم ونأتي غدا مثلا؟ سؤال غبي آخر.. فقد أجابنا: لا خليكم لأن بكرة سيأتي موظفو هيئة أخرى أو عمال مصنع آخر.. كل يوم كده!!
النصف ساعة استطالت قليلا ثم كثيرا.. وفي خلال الساعات الثلاث التي قضيناها في الانتظار، ظللنا نتبادل الأسئلة الغبية حول الكروت الذكية.. ما الذي جعل الحكومة تهِم كثيرا في هذا الأمر؟ هل هذا بسبب تعضيد الاتحاد الأوروبي لمشروع تحويل الحكومة الورقية لحكومة إلكترونية؟ وإذا كان الأمر قد بدأ منذ ديسمبر 2014، لماذا الازدحام الآن؟ هل لأن مهلة الانتهاء من المشروع هي شهر يونيو؟ وهل هناك ماكينات صرف آلي تكفي لكل هؤلاء العاملين بالقطاع العام والذين سيقبضون رواتبهم بالفيزا؟ أم سيقفون طوابير عند ماكينات الصرف خارج البنوك وتلك التي ستوضع – كما يقولون – في أماكن العمل؟ وما الفرق يا ترى بين الوقوف طابور أمام ماكينة الصرف والوقوف طابور أمام الموظف المختص بصرف الرواتب؟ وماذا لو حدثت مشكلة وتم سحب الكارت مثلا ووقف الموظف عاجزا والطابور وراءه؟
وهل نظرت وزارة المالية في شكل رواتبنا التي غالبا ما تكون كذا وتلاتة وعشرين جنيها وأربعة وستون قرشا؟ كيف سيصرف كل واحد راتبه كاملا إلا إذا تمت إعادة النظر في مقدار المرتب ومدى مناسبة ذلك لنظام الصرف الآلي؟ وهل ستكون هناك وظيفة (صراف) أي موظف يصرف الرواتب، أم سيقومون بإلغاء هذه الوظيفة؟ وماذا عن المكافآت والبدلات وخلاف ذلك من المبالغ التي يتم صرفها دون المرتب؟ هل ستصرف بالفيزا أم سيبقى الصراف البني آدم ليقوم هو بصرفها للموظفين؟ ولماذا يتم تسليم الموظفين كروت فيزا وليس كروت (ATM)؟ ومَن المستفيد؟ ولماذا؟
بعد هذه التجربة البنكية الغريبة أدركت أن بنوكنا الوطنية سيزداد عملاؤها أضعافا وأضعاف.. وهذا شيء جيد ولكن هل تتحمله تلك البنوك بفروعها المحدودة وموظفيها المعدودين؟ وهل تم الإعداد الجيد لاستيعاب تلك المنظومة الإلكترونية بحق؟ وهل ستفرح صاحبة الزغرودة فعلا بالمنظومة الجديدة أم ستتمنى عودة (الراجل) الذي كانت تستطيع التفاهم معه وسؤاله أي سؤال حتى لو لم يكن سؤالا ذكيا؟!