خالد منتصر.. والصيام بفقه النفاق
«إن طريق الدين هو السمع والأثر، وإن طريق العقل والرجوع إليه مذموم في الشرع ومنهي عنه.. إن فصل ما بيننا وبين المبتدعة هو مسألة العقل، فإنهم أسسوا دينهم على المعقول، وأما أهل السنّة فقالوا: الأصل الاتِّباع والعقول تبعٌ».
هكذا بكل وضوح كان الإمام السمعاني يتحدث في منتصف القرن السادس الهجري، سيرًا على درب من سبقه من الفقهاء، لينفي نفيًا قاطعًا أي علاقة بين الفقه والعقل، ومن ثمّ بين الفقه والعلم التجريبيّ الذي يقوم على العقل حصرًا. كان بمقولته هذه يؤكد أن كل تشريع أو حكم وإن بدا مخالفًا للمعقول يظل من صلب الفقه طالما ورد ذكره- عن طريق السمع- في الأثر!
«وكان إذا أهل رمضان دخل حراء فبقي فيه طول الشهر، وكان يطعم المساكين، ويعظم الظلم، ويكثر الطواف بالبيت». لعل أول ما سيتبادر لذهن قارئ هذا النص أن المشار إليه أحد المسلمين! لكن الحقيقة أن ابن الجوزي صاحب النص كان يتحدث عن عبد المطلب، الذي كان كغيره من الحنفاء يعظمون شهر رمضان. يصومون، ويطعمون المساكين، يحجون ويطوفون بالبيت قبل الإسلام، وعلى رأسهم- أي الحنفاء- زيد بن عمر بن نفيل، عم عمر بن الخطاب.
«حتى إذا كان الشهر الذي أراد الله به فيه ما أراد من كرامته من السنة التي بعثه فيها، وذلك الشهر رمضان، خرج إلى حراء كما كان يخرج لجواره ومعه أهله، حتى إذا كانت الليلة التي أكرمه الله فيها برسالته ورحم العباد به، جاءه جبريل بأمر الله تعالى». نزل الوحي إذن بحسب ما يؤكد ابن كثير ورسول الله يتعبد- كما الحنفاء - في حراء، في شهر رمضان الذي يُعظمه قومه. فلماذا هذا الشهر بالذات؟ أم كان اختيار الله له محض مصادفة؟!
في الواقع لا يُمكنك الإجابة عن هذه الأسئلة أبدا، لأن هذه النوعية من الأسئلة ستحشرك في خانة المبتدعة الذين وصفهم الإمام بأهل العقل، محاولي إعماله. وأقصى ما يُمكن أن تذهب إليه هو حديث منسوب للنبي يقول فيه: أُنْزِلَتْ صُحُفُ إِبْرَاهِيمَ فِي أَوَّلِ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ، وَأُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ لَسْتٍ مَضَيْنَ مِنْ رَمَضَانَ، وَالْإِنْجِيلُ لِثَلَاثَ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ، وَأُنْزِلَ الْقُرْآنُ لِأَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ.
فالأمر هنا أيضًا له علاقة بالأثر، فكما وافق الإسلام سنة الحنفاء السابقين عليه في تعظيم شهر رمضان وفرض فيه الصيام، وافق أيضًا- بحسب الحديث- سنة الأديان التي سبقته. وفي استهلاله لآية تشريع الصيام، لم يشذ القرآن عن هذا المنهج الذي ارتضاه أهل السنة لما يربو على ثلاثة عشر قرنًا، حين قال: "كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ". لماذا يا أللّه كُتبت علينا الصيام؟ يجيب المولى عز وجل: "لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ". فهل هناك أوضح من هذا السبب لفرض الصيام؟! إنها التقوى المنشودة ولا شيء غيرها. لا صحة ولا فوائد للجسم ولا يحزنون. وهو جواب جاء بصيغة: لعلكم؛ صيغة لا تحتاج إلى تعقيب.
فهل اكتفى القرآن بموافقة الحنفاء والسير على درب الرسالات السابقة؟
في الحقيقة لا، وإلا أضحت فريضة الصيام مجرد نقل لشعائر الجاهلية والرسالات الأخرى، التي ما جاء الإسلام سوى ليصوبها ويعيد قراءتها من منظور فلسفته الخاصة. أضاف الإسلام مبدأ في غاية العدل والنبل ألا وهو: "يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ". ومن ثم، وبناء على هذا المبدأ العادل جدًا، أردف: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ. إنها رخصة بعدم الصيام لمن لا يطيقه، والتعويض عنه بإطعام المساكين، وهو إطعام من شأنه أن يحقق الهدف المنشود: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ. لكن من طريق لا يُمكن أن يدخل من ناحيته الضرر. إنها رخصة تعلي من مبدأ الحرية بالذات!
وهو مبدأ كان قد جرى تطبيقه في عهد النبوة، إذ ينقل لنا الطبري ما جاء في الأثر على لسان معاذ بن جبل فيقول: فكان من شاء صامَ، ومن شاء أفطر وأطعمَ مسكينًا. وهو قول أكده أيضًا الحسن البصري، الذي يقول: كان من شاء صام، ومن شاء أفطر وأطعم نصف صاع مسكينًا.
بيد أن الأمر لم يقف عند هذا الحد؛ فكان للفقه رأي آخر. إذ اعتبر الفقهاء أن قوله تعالى: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ. قد ألغى تلك الرخصة ونسخ ذاك المبدأ، فاستبدل قيمة الحرية بحتمية الصيام لكل من شهد الشهر، بل وذهب بعضهم إلى وجوب قتل من يطبقها.
عند هذا الحد، وبمخالفتهم لصريح الآية، كان الفقهاء قد أغرقوا أجيالا متتابعة من المسلمين في بحرٍ من نفاق لا قرار له، فإلغاء مبدأ الحرية، وفرض الصيام على من يطيقه ومن لا يطيقه، لا بد وأن يُنتج بطريق الحتم واللزوم مجتمعا يصوم لينافق، لا ليتقي. وهي نتيجة لم تغب عن الفقهاء أنفسهم وإنْ غيبوها عمدًا، فانتهى الأمر بهم إلى ابتداع بدعة ما قال بها السلف أبدًا: ألا وهي أن في الصيام فوائد صحية؛ لذلك شرعه الله، إنها محاولة بائسة لتعويض المسلمين عن سرقة مبدأ الحرية الإلهية. وهو قول لو اطلع عليه السمعاني لوسم قائله بالضلال والابتداع في الدين! إذ لا يدري أحد كيف يكون فيه فوائد ولا يخبر بها من قال ما فرطنا في الكتاب من شيء، ثم لا يخبر عنها مئات الفقهاء عبر القرون. بل وكيف مع تلك الفوائد يرخص الله في عدم الاستفادة منها، حتى لو افترضنا أنه عاد ونسخ الرخصة بحسب زعم الفقهاء.
هل بالغت حين قلت إن الفقه قد ورط أجيالا متتابعة من المسلمين في النفاق؟
يكفي فقط أن تتابع ردود الفعل على تصريحات الدكتور خالد منتصر لتعلم أن نجاتنا من الغرق الأبدي في هذا البحر السحيق تبدو شبه مستحيلة. فما إنْ نطق الرجل المؤمن بالعلم، بأبسط بديهيات العلم، حتى جُن جنون الفقه وأتباعه. لا لشيء سوى رغبة الجميع في أن يخالف الطبيب مبادئ طبه ويقول إن في امتناع السقيم والسليم عن الماء والغذاء فوائد للبدن. إنها انتفاضة من أجل أن يُخلي الطبيب ساحة الطب لخرافات الفقه، كما أخلى الفقهاء ساحة الدين من العقل.
إن مجرد نظرة عابرة على الشارع الرمضاني المصري لكافية أن تُخبرك بكل وضوح أن رمضان لا يُقربنا من التقوى المنشودة، بل يُبعدنا عنها بأميال، فأخلاق المصريين في نهاره تسوء عما سواه من الشهور، ومعدل إنتاجهم- فيما عدا الشتائم والسباب وسب الدين - ينتقل إلى ما دون الصفر بكثير، ونسبة توترهم في أيامه ترتفع بدرجة لا يُمكن أن تفوت على غافل. وهي أمور ترتبط ارتباطًا وثيقًا بمؤشر صحتهم البدينة والنفسية الذي يصل خلال الشهر إلى أدنى معدلاته.
ومع ذلك لا يرى الفقهاء أن النظرية يشوبها أي خلل، بل يرددون دومًا أن العيب في التطبيق، لم يحاولوا لمرة يتيمة أن يعترفوا بأن منهجهم وقراءتهم للنص محل العلة وموطن الداء، وأن المسلمين المحجوبين عمدًا عن قراءة النص، والتمتع برخصة الحرية الإلهية، ما هم إلا مجرد ضحايا للقراءة الفقهية بالذات.
إن الصيام الذي شرعه الله لغرض التقوى يتحول على أيدي الفقهاء إلى مناسبة سنوية للنفاق، فبينما يمتعض المسلمون من قدوم رمضان سرًا، تراهم في العلن يدعون الله أن يُعيده أعومًا عديدة وأزمنة مديدة، وبينما يفترض بهم مع انتهاء الشهر أن يحتفلوا بوصولهم للتقوى، تراهم يتسابقون للوصول إلى محال الخمور وتجار المخدرات مع ساعاته الأخيرة. وهو أمر لا يخص المصريين حصرًا، بل كان كذلك منذ فجر الفقه! فقد قال أبو دلامة:
جاء شهر الصيام يمشي مشية لا أشتهيها
قائداً لي لـيـلة الـقـدر كـأنـي أبـتـغـيـهـا
وفي موضع آخر:
جاء الصيام فصمـته مـتعمداً ** أرجو رجـاء الـصـائم المتعبدِ
ولقيت من أمر الصيام وحره ** أمرين قيسا بالعذاب المؤصدِ
بل إن خليفة المسلمين الأموي، الوليد بن يزيد، قد ذهب إلى أبعد من ذلك حين قال:
ألا من مبلغ الرحمن عني ** بأني تارك شهر الصيام
فقل لله يمنعـني شرابي ** وقل لله يمنعني طعامي
إنها أشعار وإن حلا للفقه صب اللعنات على قائلها باعتبارها "كفرية"، إلا أنها خير شاهد على أن الفقه بالذات أقصر الطرق إلى الكفر. نعم خسر قائلوها دينهم لكنهم فازوا بصحتهم النفسية حين ابتعدوا عن النفاق الذي يوجبه الفقه.
هل تريد دليلاً آخر على توريط الفقهاء للمسلمين في بحر من نفاق لا قرار له؟
حسنًا! السلطات الطبية السعودية، بحسب المنشور في الخبر أدناه، توصي مواطنيها المرضى بعدم تناول كميات كبيرة من ماء زمزم. لماذا؟ لأنها تحتوي على أملاح قد تسبب لهم حصوات في الكلى، وقصور في وظائفها، والتهاب متكرر في مجرى البول والكليتين، وارتفاع في ضغط الدم، بل إنه – وبحسب الخبر ذاته – أكبر نسبة لمصابي الفشل الكلوي في السعودية، متواجدة في المنطقة الغربية، حيث يتواجد ماء زمزم! ترى ماذا ستكون ردة الفعل لو خرج خالد منتصر ليقول ما قاله مدير عام المركز السعودي لزراعة الأعضاء؟!