التوقيت الإثنين، 23 ديسمبر 2024
التوقيت 12:17 ص , بتوقيت القاهرة

الشيطان يعدكم الفقر

(1)                                          
بعض الوقت يكون ترجمة الكلمات إلى لغات أجنبية مهما لفهم معانيها، لأن الاعتياد يقتل الدهشة وكثرة تداول الكلمة يُفقدها ما بها من عاطفة ومعنى.


مثال ذلك، كلمة الاستسلام لله، بالمعنى الواسع للإسلام، تترجم في الإنجليزية إلى surrender ومعناها التوقف عن القتال وإعلان الخضوع. وهو المعنى الفعلي المقصود من وراء الإسلام. دون المفهوم الضيق الذي يقتصر على نطق الشهادتين والقيام ببعض الشعائر، إنما هي حالة استسلام كاملة، التوقف عن النقمة والنفور والصراع والإيمان بالقدر وما لا شأن للإنسان به، وما لا يفهمه، وما هو خارج حدود قدرته، كلمات مثل التفويض والصبر والرضا والسكينة والتوقف عن قتال لا طائل من ورائه سوى استنزاف الإنسان في صراع يجعله عدوانيا وشرسا. وهو ما ينقل العدوانية من الداخل إلى الخارج ويسقطها على المجتمع فلا يتوقف عن الظلم والتعالي والانتقام والاحتداد.


التسليم لله يجعلك متصالحا مع تكوين جسدك، وطبيعة أسرتك، ولون بشرتك، ومناطق الضعف فيك، والفتاة التي هجرتك، وحظك من رزق ضيق محتوم عليك لا يزيد. هذا التصالح يقلل من النقمة والشعور بالفقر والإحساس بالهضم والغضب الهدام، ويجلك تنتقل إلى مساحات العمل والتأثير الواسعة التي تمتلك فيها أنت القدرة على التغيير والإبداع والبناء. لأن حصر الإنسان في نطاق مظلوميته الخاصة وشعوره بالنقمة تجاه وقائع وأحداث وأزمنة بعينها هو أول أسباب الطغيان والجبروت.


قديما كان الشعراء يحذرون من كل ذي علة جبار.. فالمعتلون بدنيا أو روحيا هم أول من يتجبر ويطغى لو امتلك الفرصة لذلك، طالما لم يتصالح مع علته. بينما الأقوياء حقا، بالقدرة على العمل والرضا، هم من يميلون للمسالمة وتجنب الصراع وترك الصدام في نهاية القائمة.


هتلر كان يريد أن يصبح فنانا، فرفضته أكاديمية الفنون بفيينا، فمشى هائما على وجهه وعمل صبي دهان، ثم تطوع في الجيش على غير هدى، وخرج مصابا عاجزا عن المشي لشهور، ثم أخرج ما بداخله من نقمة وتمرد وكراهية للمجتمع وشعور دفين قديم بالعجز وفقدان الحيلة. 


وستالين، هذا السفاح الروسي الذي قتل 20 مليونا من أبناء شعبه، عندما كان طفلا تعرض للضرب المبرح من أبيه المخمور الذي يعمل سباكا.


وشاه إيران، محمد رضا بهلوي، كان يفرط في البذخ وإظهار الزينة والثراء، وكان يمتلك آلاف السيارات والجواهر النفيسة، وأعد احتفالا أسطوريا للاحتفال بأعياد المملكة الفارسية وعزم ملوك العالم، إنما كان يفعل ذلك انتقاما من طفولة قاسية كان أبوه يجعله ينام على الأرض عقابا له بينما أخته تنام على فراش وثير.


ربما تعرض كل هؤلاء لظلم ما في الطفولة، لكن الحياة أعطتهم الفرصة للإنجاز وتحقيق الذات والحصول على مكانة اجتماعية ومهنية مرموقة، أعطتهم كل فرص السلام النفسي والتخلص من أعباء الماضي. لكنّهم اختاروا أن يظلوا أسرى لماضيهم المعبأ بالنقمة والكراهية والسخط.


على النقيض، أعظم سيمفونيات بيتهوفن ألفها وهو أصم، وأعظم مسرحيات شكسبير كتبها وهو جائع فقير لا يمتلك نقودا تضمن له الدفء في سقيع لندن. وروزفلت أنقذ الولايات المتحدة الأمريكية من الكساد العظيم وهو مقعد على كرسي متحرك. ومددوا له فترة الرئاسة لمدة ثالثة خرقا للدستور في استثناء فريد لم يتكرر على مدار تاريخ أمريكا.


بل إن الفتاة المعدمة التي رمتها أمها وهي طفلة وتربت في ملاجئ الأيتام، صارت أهم نجمات العالم- مارلين مونرو- وصارت تغير الذهنية العالمية عن أمريكا بعد أن تشوهت لسنين بفعل قنابلها النووية التي دمرت مدنا بأكملها وقتلت مئات الألوف في مشهد وحشي ينم عن همجية دفينة على عكس ما تزعمه ثياب الحضارة الزائفة.


(2)
يقول الله (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء وَاللّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)، مفتاح الشيطان لدى الإنسان والذي يكون مدخلا لكل الشرور والفواحش هو الإحساس بالفقر، فالشيطان يعدك الفقر ويقنعك به، الفقر المادي أو النفسي أو العاطفي، حتى لو كان فقرا متوهما غير حقيقي، وعندما تشعر بالفقر تبدأ في النفور وكراهية الناس وتعمد إلى الشراسة معهم، تشعر أنهم أعداؤك وأنهم ظلموك وأنهم السبب في إفقارك.


الاستسلام لله كما شرحناه في البداية والتصالح مع أمور خارجة عن حدود تدخلنا، هو الذي يصنع تلك النفسية السوية القادرة على العفو والمبادرة والعمل الصالح. والاستسلام معناه ثقة فيه أنه يصنع توازنات أخرى في الحياة تقلل من حدة ما تعرضنا له من فقد، وأن قيمة الصبر لا تضيع سُدى، وأن حرث الدنيا غير مقصود في ذاته، وأن ثمة أعمالا يجب أن تدخرها لحرث الآخرة لا تريد عنها عوضا مباشرا.


وقد يظن البعض أن الترفع عن حرث الدنيا وفقا لمفهوم إيماني قد يصنع شخصية متواكلة، على العكس، فالأصل في الإنسان هو المادية وحب الحياة والرغبة في التملك والمبالغة في الاستمتاع بكافة الشهوات، وأصل الشرور في العالم هو تضارب المصالح الذي يصنع الحروب والسرقات وكافة جرائم القتل والاعتداء. فلو تدخل منطق "حرث الآخرة" ليخفف قليلا من حدة الإنسان على التقاتل والسلب وحب الامتلاك، لو تنازل كل منا لأخيه عن بضعة جنيهات أو عن موقف أو عن جملة عابرة غير مقصودة، لربما انخفضت المشاكل في الحياة بشكل كبير.


(3)
يقول الله (قُل لِّلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)، الأكثر إيمانا في الآية هو الأكثر غفرانا والأكثر ميلا لتجاوز الصراع.. وتلك سياسة قرآنية تتكرر في عشرات الآيات والمواقف لتحكم ظروف الحياة اليومية، وقت السلم، على عكس ما يظنه البعض من غلظة في بعض آيات في شؤون الحرب، وهي مفهومة.


من لا يرجون أيام الله في نظرنا عصاة أو مخطئون أو حتى كفار، لكن عقائدهم ليست مانعا لنا من العفو عنهم. بل إن التمييز بين المؤمنين وغيرهم، هي قدرة الأولين على العفو، ورغبة الآخرين في تصلب الرأي والعناد وعدم التسامح، هنا يتضح لنا مفهوم الإسلام؛ فيكون ذلك تسليما لله، ليجزي الله كل نفس بما كسبت. لا تنشغل بمن عمل عملا فاسدا، لكن انشغل أولا بأن يكون عملك صالحا. والآية التالية (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ)، كأنه يقول اترك الناس وأعمالهم إلى ربهم الذي يرجعون له في الأخير.


(4)
والمعنى السابق لا يقود للتواكل وترك شؤون الحياة، كما يحلو للبعض أن يفهم فهما شاذا.. فكلمة عمل/ يعمل / وعاملون، وكل مشتقات العمل وردت في القرآن ثلاثة أضعاف ما وردت مشتقات الصلاة أقدس عبادة. دلالة على مسؤولية الإنسان عن عمله ووجوده في الحياة، بل إن رواية القرآن لحركة التاريخ يجعلها حركة بشرية تتعلق بأفعال الإنسان وسعيه وقراراته وطريقة تفكيره، وأن الخير والشر صناعة أرضية لا يتدخل الله فيها كثيرا حتى لا يفسد على الإنسان حرية السيادة والاستخلاف، فيكون للحساب معنى. لأن الحساب دون حرية محض هراء.