فيديو| جورج بهجوري.. حكاية فنان عالمي تجاهله بلده
داخل الحارة الضيقة المتفرعة من شارع معروف بوسط القاهرة، لا صوت يعلو على صوت دقات العاملين بالورش، وصيحات لاعبي النرد والدومينو، يراقب الرسام الساكن في تلك الحارة، هذه الحركات طيلة الوقت، تنسجم روحه معها، ويسجلها كأنها مسروقة من الزمن، لا يشترك معهم، لكنه متفرجا ومستمعا ومتلقيا، يرصد الطريق في كل حركة ومع كل شخص، من شارع معروف حتى مقاهي الحسين وباب اللوق، ويقول إنه يتعجل الرسم دائما حتى لا يبرد ما يراه.
من قرية بهجورة بمحافظة قنا، عام 1932، تفتحت عين جورج عبدالمسيح بشاي على الحياة، اتخذ اسمه من تلك القرية، التي أحبها، ليصبح فيما بعد الرسام العالمي، جورج بهجوري.
الشمس تغازل ألوانه المنتشرة حوله، فتبتهج الحوائط، وتتشوق اللوحات إلى لمسته، التي تعود إليها من جديد، مع انتهاء رشفة القهوة، ووسط هذه الحالة، وبصحبة مئات الكتب والصور، التي تملأ مكتبته، يقضي بهجوري يومه في المرسم الخاص به، من العاشرة صباحا حتى العاشرة مساءً، يقرأ الجرائد، يرسم، يستمع للأغاني، ويستقبل زواره.
يسترجع بهجوري شريط الزمن، ويتحدث لـ"دوت مصر"، قائلا: "اتولدت في قرية بهجورة، وبروح أزورها كل فترة، وألاقي الناس بيحتفلوا بيا في كل مرة، اتعلمت منهم البساطة والأخلاق والحب، لكني انتقلت منها إلى الأقصر، بحكم عمل والدي في التدريس، وهو نفس السبب اللي نقلنا المنوفية بعدها".
والشجن يسيطر على صوته، يستكمل: "كان عندي 4 سنين عندما توفت أمي، وأنا أصغر أخوتي، كنا أسرة فقيرة، وأبويا اتجوز وجابلنا زوجة بتكرهنا، فكانت طفولتي تعيسة، لغايت لما انتقلنا إلى القاهرة، ودخلت كلية الفنون الجميلة، وقتها اتغيرت حياتي".
في الركن المفضل له داخل المرسم، جلس بهجوري، ليتذكر عمله في مجلتي روزاليوسف، وصباح الخير، بعد تخرجه: "اشتغلت في صباح الخير وروزاليوسف أيام ما كان ملايين بيتابعوهم، تحديدا الجزء الخاص بالكاريكاتير، والقراء كانوا يبعتولي رسائل، يقولوا الرسمة دي مش فاهمنها، أو دي عظيمة، أو رسومات إيه ده واحد بيشخبط، والنقد ده نفعني جدا، وبالتأكيد اختلطت بناس كبار وعظام علموني كتير".
"أول يوم جه يشتغل فيه بروزاليوسف، دخل أوضتي وأنا برسم، وقالي الرسمة دي أفضل من دي".. نطق بهجوري تلك الكلمات، دون تفكير، حين تذكر صديقه صلاح جاهين:"قبل ما يبقى شاعر أو رسام، جالي مكتبي وشاف الرسومات، وقالي رأيه، وإحنا مكناش متوقعين إنه هينجح في الكاريكاتير، لكنه نافسني بدرجة كبيرة وتفوق كمان، لأنه كان عنده حس فكاهي وأفكار مش عند حد".
لم ينكر بهجوري أنه كانت هناك غيرة بينه وبين صلاح جاهين، لكن ذلك لم يؤثر على صداقتهما، ويحكي: "في الأول مكنتش عايزه ينجح، عشان أنا أقدم منه، لكن بعدين أصبحنا أصدقاء، وتمنينا أن إحنا الاتنين نتفوق، والمنافسة ما أثرتش على ده، مش بس مع صلاح جاهين، مع كل رسامي الكاريكاتير في روزاليوسف، حجازي والليثي وبهجت ورجائي، كلنا كنا بنرسم، وبنلعب بالليل بينج بونج، ونحضر الحفلات والمسرح والسينما".
أغرت عاصمة الفن حينها، باريس، هذا الشاب الثلاثيني، ليترك عمله ويذهب إليها لمدة 30 عاما، و يروي عنها قائلا: "لازالت باريس حلم الرسام والفنان، عشان هي بلد كلها فن، دخلت كلية فنون جميلة مرة ثانية هناك، في جامعة السربون، وباريس ورتني حاجات جديدة، منها الاختلاط بناس مختلفة راقية، وكل الممنوعات في مصر مباحة هناك، حسيت بحياة ونغم جديد، واتعلمت لغة، ولقيت ناس بتحب شغلها والفن والحياة وبيقدروا الفنانين جدا، وبشوف إني نجحت هناك في تهذيب نفسي".
ينتقل حديثنا مرة أخرى إلى الماضي، لكن هذه المرة عن علاقته بأم كلثوم، وعبدالحليم، فتعود البهجة إلى صوته، ويقول: "كنت بسهر أنا وأم كلثوم وعبدالحليم وكمال الطويل وعبدالوهاب ومحمد فوزي وقاسم جودة وإحسان عبدالقدوس، كل ليلة، نغني ونقول شعر ونضحك، وفي مرة قالي عبدالقدوس إن عبدالحليم هيبقى أهم مغني في مصر، فكنت أبص لعبدالحليم وأقوله أنا رسمتك، إنت ملامحك جميلة جدا، وكان يتصل يشكرني على كل رسمة، وبعدين قالي إنت ترسمني وأنا أغنيلك، وكان يجيلي في روزاليوسف يقعد معايا وقت طويل، أما أم كلثوم، فاتقابلت معها مرتين، بس في لقاءات عامة، لكن رسمتها كتير جدا، وفي كل مرة برسمها بيطلع شكل جديد، وعشان كده من فترة جمعت كل رسوماتها في كتاب خاص".
وبسؤاله عن أحب الرسومات إليه، أجاب بابتسامته المعتادة سريعا: "البروتروية، لأنه بيظهر فيه شخصية الإنسان".
وعن تأثير الجانب السياسي على عمله، يتابع: "أولا لازم يكون عند رسام الكاريكاتير فكر سياسي، عشان برسمته بيعبر عن رأيه، وكمان بيوجه الناس في اتجاه معين، ثانيا أنا كنت وقت عبدالناصر برسمه مرات كتيرة جدا في اليوم الواحد، بسبب حبي الشديد للراجل ده، وتفاؤلي وقتها بمستقبل مصر على يده، لكن مثلا حكم الإخوان أخفى ابتسامتي والبهجة اللي بحسها في رسوماتي".
قبل أشهر، وحين وقع حادث مجلة "شارلي إيبدو" الفرنسية، صرح بهجوري إنه حذر رسامي الكاريكاتير بالمجلة من الاقتراب من المقدسات الدينية، وهو ما دفعنا إلى سؤاله: "هل هناك محظورات في فن الكاريكاتير؟، فأجاب: "بالتأكيد، الكاريكاتير مينفعش يقرب من الدين، أو الحياة الشخصية لأي إنسان، أو التعدي على أحد بالألفاظ والسخرية منهم، وأنا ناس كانوا يقولولي أنت بترسمنا وحش، لكن محدش أبدا شاف إني بسخر منه".
لم يوجد لبهجوري طقوسا محددة لإخراج أعماله، وفقا لما يقوله، فتارة يغلق على نفسه باب غرفته ويعكف على رسمته حتى النهاية، وأخرى يستمتع بالأصوات الصاخبة، الصادرة عن المقاهي والورش، بشارع معروف، ويفسر ذلك قائلا: "الفنان الناجح هو اللي يخلق الجو اللي هو عايزه في أي مكان، وأنا عرفت أتأقلم على الدوشة اللي حواليا وحبيتها".
وفي نهاية يومه، تنتهي قهوته، ورسمته، وقراءته للصحف، التي لم تعد تقدم جديدا في رأيه، خاصة في فن الكاريكاتير، ويذهب إلى بيته، الذي يبعد أمتارا معدودة عن المرسم، وفي داخله دائما شعورين، الأول بالرضا عن ما قدمه طوال حياته، والآخر بالمرارة كونه فنانا عالميا، كرمته دول أوروبية، ولم تكرمه بلده حتى هذه اللحظة.