جندي مجهول.. أحمد الجمل
أُنهي اليوم بهذا المقال، ما بدأته في ثلاثة مقالات عن أحداث العباسية والظروف المحيطة بالحدث.
بدخولي مستشفى القبة اختلف الوضع، بالشارع فوضى وصراع، بالداخل التزام طبي عسكري في تناغم رائع.. وصلت لحجرة الرقيب المصاب "أحمد الجمل" الذي حيرني هدوءه، فقد كنت غاضبا للغاية من فكرة الترويج لمقاتلة جنود الجيش والشرطة في شوارع المحروسة، تحت مسمى العمل النضالي الثوري، وهو ما انتشر في الأدبيات الثورية.
لكن وهو المصاب كان يتحلى بصبر، من ذلك النوع الذي يحملك على التأمل.. استقبلني بترحاب ريفي شديد مع عدد من زملائه القائمين على خدمته، وأخبرني أنهم سعداء بزيارة المدنيين لهم، وأنهم في حيرة، فبالشارع من يود إيذاءهم دائما، وبالمستشفى من يحمل لهم الورود والهدايا، قاطعين عشرات الكيلو مترات كي يقدموا لهم الشكر والعرفان!
لم يسيء لأحد خلال الحديث حتى من تسبب في إصابته، وما ذكره لم يتعد عبارة "ربنا يهديهم ويصلح الأحوال"، كان يقدم نفسه كشخص معتاد أن يحفظ الأمن، دون أن يضع تحليلا لمسببات الصراع، حتى إن أذاه هذا الصراع بشكل مباشر، وهو ما يتعارض كثيرًا مع فلسفتي الشخصية، فوجدت نفسي أحاول توجيه مساره نحو الغضب، ثم استفقت مالي والرجل، دعه وتسامحه.
ورغم غموض مستقبله من جراء ما أصابه، فهو مقاتل محترف بالصاعقة في منتصف الثلاثينات من عمره، قد تعني إصابته خروجه من الخدمة نهائيا، إلا أنه لم يفقد حُلمه ولم تخذله تعبيراته.
أخبروني بالمستشفى أنه بقى لخطورة إصابته، لكنه تخطى نسبيا مرحلة الخطر، وصار بأول مراحل الأمان.. سألته عما حدث، فقال: جالنا إخبارية إن فيه ضرب نار من فوق مسجد النور، رُحنا هناك. كذا مجموعة.
سألته عن وجود مجندين؟
فأجاب: كنا أفراد صاعقة فقط..
الأوامر اللي عندنا، ما نضربش نار نهائيا، ولو ضربنا في أسوأ الظروف لحماية نفسنا من الموت بس.. ويكون الضرب على الرجلين.. التعليمات مشددة.
استدرك في حديثه، وحدثني عن عظمة حرمة الروح، وحدثني عن خدمته بأماكن متعددة بأطراف البلاد، ذات طبيعة خطرة، أخذ على نفسه العهد ألا يقتل مطلقا، إلا من كان على وشك أن يقتله، وأكدّ على كون إزهاق الروح أمر عظيم.
حديثه هادئ على عِظم مصابه، أخبرني بإصابته بطلقة وشظية بالظهر، وبأن الأطباء قد أخبروه بأن الطلقة أصابت لوح الكتف وغيرت اتجاهها، واستقرت قرب القلب بنحو نصف سنتيمتر، وأن الشظية الثانية هناك تشكك أنها طلقة كاملة، وسيتركونها داخل الجسم، ينمو اللحم حولها ويعيش بها طوال حياته، بينما الطلقة الأولى، ففي انتظار إجراء جراحة لإزالتها.
وحدثني عن مخاوفه أن تفقده الإصابة والجراحة قدرته على ممارسة مهام عمله، وحدثني عما غيرته فيه طبيعة عمله العسكري، وطبيعته الاستثنائية كمقاتل محترف، وكيف بدلّ الميري حياته حتى فقد حياة الدعة وأناقته التي كان شديد الحرص عليها، الآن لا يهتم سوى بأكل العيش وزيه الميري، وصار الالتزام جزءًا منه.
واستكمل الرقيب أحمد الجمل:
دخلنا المسجد، لقينا الراجل أبو دقن بيضا طويلة ده "يقصد الشيخ حافظ سلامة" قاعد ممدد رجله وضهره لورا، ورجله في وش اللي داخل بطريقة غريبة شوية، وسأل: عاوزين إيه؟ وكان متحفزا جدا في الكلام.
القائد قال له إن فيه ضرب نار من المسجد.. فنفى حافظ سلامة إن يكون فيه حد جوه الجامع! المسجد مش دور واحد، فيه قبل السطح دور تاني متقسم لكذا قسم كده، طلعنا فوق لقينا واحد طالع في وشنا شايل أنبوبة، لما لقانا رماها ناحيتنا وجرى تاني استخبى فى أوضة.
إحنا طالعين كل واحد بيحمي ضهر التانى "ضهرنا في ضهر بعض".. على السطح واحد زميلنا انكفى على وشه وهو حامي ضهر زميله، رفعوه لقوه جايب دم من بطنه وصدره وبينطق الشهادة، فزمايلنا لقنوه الشهادة .. "يقصد الشهيد/ سمير أنور الكيال".
فوق السطح نزل واحد من المادنة أول ما لقانا في وشه، صرخ فينا وقال لنا: أنا مسلم.. أنا مسلم ماتقتلونيش.. القائد قال له: اثبت مكانك وارمي سلاحك.. وإحنا كمان مسلمين.
بعد شوية سمعنا ضرب مش عارفين مكانه ..قلت للقائد أنا حاسس إنى اتعورت يا افندم.. معانا ظباط اتعوروا بشظايا في رجليهم وفي جسمهم، زمايلى شالوني وجابوني على هنا، والباقي كملوا المأمورية.. عرفت إنى مصاب بطلقة وشظية في الضهر.
سألته عن الثقب الموجود برسغ يده؟!
قلب يده وتأملها، وقال: دي شظية.. أغلبنا خدوا شظايا.. الحمد لله أغلب المجموعة خرجوا، أنا لسه.. بس الحمد لله، وربنا يهدي النفوس، والله إحنا في فتنة كبيرة.. وأنا هنا جالنا خبر إن زميلنا استشهد .. ربنا يرحمه.
الأولانية المفروض أدخل عملية أشيلها، بس المنطقة كلها أوتار وممكن أي حاجة صغيرة فى العملية تسبب شلل.. لسه ما قررتش هعمل إيه، أنا صليت استخارة.. عامة ربنا يجيب اللي فيه الخير.. ده نصيبي وأنا راضي بيه.. وربنا يهدى الجميع.. والله يا أستاذ ما تعرفشى الناس اللي جم لى هنا أد إيه.. مدنيين زيك وماعرفهمش.. والله ده حب من ربنا.
تحاورنا بشأن ظروف مصر وقتها.. فقال:
أنا نزلت التحرير كذا مرة، أقسم بالله كان سلاحي ما فيه طلقة ذخيرة واحدة.. اليوم اللي كان فيه زمايلنا الظباط معتصمين ده "يقصد ضباط 8 أبريل".. اليوم ده والله ضربنا طلق فشنك في الهوا، واتعور من زمايلنا كتير، فيه عربية معدات هندسية فوق الاتنين مليون جنيه اتحرقت في التحرير.. مش حرام طيب.
وبعدها، شفت جرنان مكتوب فيه "الجيش يرتكب مذبحة في ميدان التحرير".
إحنا قبضنا على ناس في الجامع وطلعنا أنابيب، وسلاح آلي وخرطوش، وناس ملتحين كلهم، طيب فين العقيدة اللي عند الناس دي.. هو العقيدة تخليهم يعملوا كده.
المشير كان جايلى والله يزورني، وجه زار المصابين، بس بلغوه إن جنازة الشهيد خرجت، فمشي علشان يلحقها، لكن كان جايلي قبلها يزورني.
انتهت ملامح حديثي مع بطل مصري حقيقي، وخرجت من المستشفى، نحيا حينها في ترقب للغد القادم بالمجهول، تأتي أخبار البلاد: مكتبة الإسكندرية تنفي في بيان رسمي، صحة الأخبار التي تناولت هجوم موظفي المكتبة على رئيسها إسماعيل سراج الدين وتقييده بالحبال!
استعد الجميع للانتخابات الرئاسية الأولى، انتشرت فتوى للشيخ الهارب "محمد عبد المقصود"، بجواز سرقة الابن لبطاقة والده الشخصية وإخفائها، إن كان والده ينتوي انتخاب أحد مرشحي الفلول!
وقبل منتصف مايو خرجت مظاهرات أمام مبنى مجلس الشعب، من أصحاب شركات السياحة، يتهمون نواب الإخوان بمزاحمتهم في رزقهم، فيما يخص السياحة الدينية!
وخفت صوت محمد الظواهرى الذي ذهب للعباسية بتصريح: أنه قادم لإسقاط الحكم العسكري وإقامة شرع الله، ثم تراجع وغير قوله كمراهق خائف.
وبعد شهر عاد أبو إسماعيل في 19 يونيو، من "مسجد أسد بن الفرات" يبث إجرامه ثانية، بعد صدور الإعلان الدستوري المكمل، الصادر عن المجلس العسكري، وهدّد بالتصعيد والتجهيز للشهادة، إن بقيت هناك سلطات في يد المجلس العسكري.
استمر المجرمون يشعلون البلاد بأزمة من بعد أخرى.. وبقي هناك من يعمل على إطفاء حرائقهم بإخلاص وجد.. واستمر في الظل، من حملته الأقدار المسؤولية فأداها على أكمل وجه، وأصيب فتقبل قدره برضا وقناعة.. ظللت على اتصالي برقيب الصاعقة أتابع تطوراته الصحية وتحسن حالته لفترة، قبل أن أفقد سبل التواصل معه.