طبقية وزير أم طبقية نظام سياسي واجتماعي
إنكم تخدعوننا حين توحون بأن المشكلة مشكلة وزير العدل، فالوزير عبر عن السياسة الموجودة. الآن ذهب الوزير. فهل ذهبت معه هذه السياسة؟ أبدا.
نجلاء الباز كتبت على فيسبوك:
والمقصد طبعا ليس حرفيا، إنما المقصد أن السياسة هي المشكلة وليس الوزير. الوزير المقال نفسه قال لدوت مصر: "أنا بتكلم من الواقع ومبألفش، هو ده اللي ماشي في القضاء والشرطة والجيش".
من الغريب إذن محاولة جهات سياسية وإعلامية تحويل الغضب كله نحو الوزير، وكأنهم - يا حرام - مش عارفين. لماذا؟ لأن هذا سلوك يشي بأنهم لا ينوون تغيير الوضع القائم، السر الجهير الذي نعرفه جميعا، ويعرفونه جميعا، والذي أفشاه الوزير.
زميلنا محمد خيري في دوت مصر صاغ الموضوع في سؤال بليغ: "بعد إقالة الوزير، هل يمكن أن يصبح ابن عامل النظافة مستشارا؟"
هل يمكن أن يصير ضابطا؟
هل يمكن أن يلتحق بالخارجية؟
هل وهل هل. ألف سؤال لو وضعناها إلى جوار بعضها لاكتشفنا أننا مجتمع قائم على التمييز. ليس الطبقي ضد الفقراء فقط بل وضد الأغنياء في الدعاية التنميطية. وليس الطبقي فقط، بل العنصري أيضا.
أتدرون ما هي المشكلة الحقيقية؟ المشكلة أن التمييز - كقيمة - محمية ومصونة. يحميها فهم ديني ونصوص متوارثة. تميز ضد المرأة وضد مختلفي الديانة. وما دمنا قبلنا بالتمييز كفكرة، ما دمنا اعتبرنا أن التمييز يمكن التسامح معه في ألف وباء، فلا عجب أن يمتد إلى جيم ودال وياء. ويا حلوة نقي. هذه المجموعة تميز في ألف ودال، وأخرى تدينها على التمييز في ألف ودال، لكنها لا تمانع في التمييز في باء وجيم. وأخرى ترف هذا كله، لكنها تميز في ياء.
بعض المميزين ينطلقون من حجة دينية، وبعضهم من قناعات أيديولوجية، وبعضهم من رؤية "علمية". بل إن بعض ضحايا التمييز لا يتورعون عن دعم وتشجيع تمييز آخر يكون في صالحهم. بعض ضحايا التمييز مؤمنون بأنهم مستحقون للتمييز ضدهم. أي والله. اسألي بعض النساء عن الظلم الاجتماعي الواقع عليهن وسوف تفاجئك إجاباتهن، واقتناعهن بأن هذا قمة العدل!!
لا أقول هذا دعوة للإحباط. ما حدث في موضوع وزير العدل جيد. لأنه عبر عن مظلمة اجتماعية تمارسها ويسكت عنها الشعب لكنها - على الأقل - لا تستطيع المجاهرة بها ولا الدفاع عنها. فإن التمييز درجات. أسوأها أن يكون قانونا، لدينا هذه الدرجة في التمييز ضد المرأة. التمييز "المقنن" درجة بشعة جدا من التمييز، وصل إليها في العصر الحديث النظام النازي، والنظم الدينية، والنظم العنصرية.
الدرجة التالية في السوء أن يكون التمييز عرفا محميا بالسلطة التي من واجبها الحفاظ على حقوق مواطنيها. وهذه الدرجة البشعة شائعة في مصر. المفترض - مثلا - أن يكون القضاء هو ملجأك إن تعرضت لتمييز. فإن كان القضاء معترفا بالتمييز، منفذا له، مستفيدا منه لأبناء القضاة والسلك العدلي، فأين ملجؤك؟
وما يسري على القضاة يسري على أساتذة الجامعات، الذين يتواطؤون معا لكي يحولوا التمييز إلى درجات، بالغش الواضح الصريح، سواء التلاعب في الدرجات لتفضيل أبنائهم، أو استخدام الامتحانات الشفوية لتحقيق نفس الغرض، أو حتى توزيع أسئلة الامتحانات على أبناء الأساتذة لكي يضمنوا لهم السبق. عايشت مع زملائي كل هذا في كلية الطب، وهو موجود في كليات أخرى. وأعرف شعور شاب وشابة في مقتبل الحياة يُقتل طموحهم على يد من يفترض أن يكونوا القدوة القيمية.
الحديث عن التمييز ليس "رفاهية فكرية" إذن. بل قضية اجتماعية وسياسية وقيمية لها المقام الأول. هي قضية مستقبل أمة ومستقبل انتماء. هي قضية حب لوطن أو نفور منه وعداء.
جمال السوشال ميديا أنها أتاحت لنا أن نتحدث ونعبر عن أنفسنا. لكن السوشال ميديا لم تنجح في قضية لا يدعمها الناس ويشعرون بقوة منطقها. لذلك ينبغي ألا يغرينا النجاح في الضغط من خلالها بالاكتفاء بـ"الهري"، ولا الزوغان والتشتت عن قضية كتلك خلف الأدعياء الزياطين الذين سيخلطون الشامي بالمغربي فنخسر مؤيدين لهذه القضية الجوهرية. (ستجدين أناسا يميزون ضد المسيحيين وضد المرأة يلبسون ثياب المعارضين للتمييز!!).
هكذا أكرر أن ما حدث كان جيدا، بشرط أن نبني عليه. التمييز مشكلة جذرية في مجتمعنا، في نظامنا السياسي، في ثقافتنا، ويجب أن نستثمر ما حدث من أجل مواجهتها. مواجهة المشكلة نفسها. الوزير لم يكن أكثر من ثقب رأينا من خلاله ما يحدث. فلا تدعوا أحدا يقنعنا بأن "سد الخرم" يحل المشكلة. لا بد من إجراءات وآليات تضمن نبذ التمييز.