التوقيت الإثنين، 23 ديسمبر 2024
التوقيت 08:31 ص , بتوقيت القاهرة

عن التحرش والذكورية ورجول الست

هل نحن نعيش في مجتمع ذكوري فعلا.. ما تعريف الكلمة وعلى أي شيء تدل معانيها؟


أنا من أسرة من دلتا مصر تُفرِط في الحفاظ على بناتها وتُقدِس كافة المفاهيم الدينية المتعلقة بهذا الشأن.


لكن هذا الحفاظ وتلك المفاهيم لم يمنعا إخوتي البنات من ركوب الدراجة في ليالي الصيف. منذ الصغر كانت لدي دراجة أقودها أنا واختي الكُبْرى، وعندما باعدت بيننا الحياة وذهبت وتزوجت وأنجبت، عادت معها طفلها الأول وهي لا تزال تحلم بركوب الدراجة من جديد. ولم نجد في ذلك خدشا للحياء أو انتهاكا للدين والأعراف.


أمي كانت تجلس إلى جوار أبي على شاطئ البحر وهي ترتدي بنطال وبلوزة ولا تداري شعرها. وأمي هي التي حافظت على بيتها آمنا مستقرا ودودا متعاونا لعقود طويلة. وهي التي أكرمت بناتها وأحسنت رعاية زوجها وحافظت على الصلاة والصيام والصدقة والصدق. فعلى أي قواعد نحدد مدى تدين الإنسان؟


وعندما بنى أبي فيلا صغيرة لها بابان كتب على الباب الأول اسمي، وعلى الباب الثاني اسم أخواتي البنات، ولم يجد في ذلك حرجا.. أبي رجل وقور شديد الحفاظ، لكنه لا يخلط بين الحفاظ وبين التشدد الديني. ثَمّة مسافة تفصل بين الكلمتين.


أختي الكُبْرى كانت تضربني وأنا صغير، وكنت أشكو لأبي فيوصيني بالصبر وقوة التحمل، لأن الرجال الحقيقيين يتحملون، ويكظمون الغيظ ولا يعتدون على الآخرين، وكان يُخبرني أني الأقوى، وأن الأقوى مسؤول عن تصرفاته ويبادل الناس الغفران. وعلمني الاستمتاع بتلك الصفات. وعلمني الاستخفاف بحماقات البشر والترفع عن مبادلتهم الأذى.


وكان المثل يقول: لو قابلك السفيه، كحك وسكر وهاديه..!


لم أذكر أنهم ميزوني عن أخواتي البنات في التعليم أو المعيشة أو النفقة، رغم أني كنت ولدا وحيدا.. على العكس، كانت أمي تذهب لتقضي حوائج أخواتي وكنت أشكو الإهمال فيخبروني أن الأضعف له حقوق أكبر وأن احتياجات البنات أكثر، وأنت رجل تذهب مع أبيك للعمل ولا يهمك مثل هذه الأمور.


وكنت إذا عطشت تسارع أختي لتجلب لي الماء وتعد لي الشاي وطعام الفطور، وكنت أحضر لها الشيكولاتة والآيس كريم وأعد لها السندوتشات وأذهب بها إلى المدرسة، وعقب الامتحانات أنتظرها في ميعاد الخروج. وكانت تتمنى أن تصير ولدا حتى تصحبني في كل خطوة.


مرة ضربت أختي الكبرى وأنا مراهق، فغضبت أمي وبكت بكاء حارا، وقالت حرام عليك بتضرب اختك، بتضرب أول فرحتي.. كانت تعتبر أختي الكبرى فرحتها الأولى في الحياة، ولم تتذمر لأنها أنثى وأنها تريد ذكرا.


مشكلة بيتي وبيت قطاع واسع من البيوت المجاورة لنا والمشاركة ذات الثقافة لم تكن في ظلم البنات، ولكن في تدليلهن بدرجة تفوق المطلوب.


ستي أمينة رحمها الله، كانت كلمتها نافذة على أبي وأعمامي. وكانت امرأة بألف رجل، وربت عيالها الستة ووقفت إلى جوارهم في التعليم والزواج بعد وفاة جدي. لم تتعامل يومها بوصفها امرأة أقل قدرا من الرجل. أو أن صفتها البيولوجية تؤثر على قيمتها في الحياة.


عماتي الثلاث، إحداهن تدير بيتها ويخضع لها زوجها، والثانية عندما تشاجرت مع زوجها حكمت عليه أن يبني لنفسه غرفة فوق السطح ليقيم فيها لأنها لن تغادر بيتها.


المشاكل التي رأيتها في صِغري كانت مشاكل اقتصادية واجتماعية وأخلاقية ولم يكن يؤثر عليها كثيرا مفهوم الذكورية. وكانت المرأة تتعرض لذات التحديات والمشاكل التي يتعرض لها الرجل.


كانت هناك امرأة قوية وامرأة ضعيفة مثلما هناك رجل قوي ورجل ضعيف. كانت هناك امرأة مظلومة وامرأة ظالمة مثلما كان هناك رجل مظلوم ورجل ظالم. كانت هناك امرأة تعتدي على زوجها وتحيل حياته جحيما ونارا، مثلما يحدث العكس من الزوج على زوجته.


ولكن كان الحب والشعور بالمسئولية والعاطفة القوية هم الباعث.. وقت الفقر كانت المرأة ترضى أن تحمل مسؤولية أكثر، تخرج للعمل وترعى بيتها، وتقتصد في نفقاتها الخاصة، وتعطي الطعام لعيالها أولا، ولو فاض فلزوجها، ولو فاض فهي في آخر الصف. ليس قمعا وقهرا ولكن من وازع الحب والشعور بالمسؤولية. والمؤثر الديني الذي يعد هؤلاء بالستر والصحة والرضا.


لدينا مشكلات حالية كثيرة تواجه المرأة في الشارع وطبيعة العمل ومكونات الأسرة. لكني اعتقد أنها مشكلة تواجه المصريين من الجنسين بشكل أساسي وتبعاتها تقع على المرأة في درجة تالية بدرجة أكثر خطورة، وسبب ذلك اختلال منظومة القيم "المصرية" التي مزجت طبقات من الحضارات المتوالية والتي نفذت لروح الدين وأصالة الإنسان، قبل أن يقتحمنا التخلف والاستبداد والتدين الديني الزائف والمد الوهابي المقيت.


الآن وأنت رجل تقود سيارتك في الشارع مُعرض لكل أنواع الانتهاك والاعتداء من البلطجية والحمقى وسائقي الميكروباصات وأمناء الشرطة، والفصل التعسفي من العمل وتعطيل أوراقك في المصالح الحكومية.


لدينا مشكلة سوداء تختص بها المرأة وهي التحرش، والأساس فيها الانفلات الأمني وتحلل المستوى الأخلاقي ثم الخطاب السلفي الأحمق الذي عمق الشهوانية والافتتان بالجسد في أذهان العامة. لكن المختلف هنا أن التحرش ليست ظاهرة ذكورية، إنما هو ظاهرة انتحار اجتماعي ذي أبعاد أمنية وأخلاقية.


قديما حكى لي سائقنا الخاص، أنه كان يمر بقرية فدهس البط والفراخ المارة دون أن يشعر، فخرج عليه أهل القرية التي تعتبر البطة موازية لروح إنسان، وكادوا أن يحطموا سيارته قصاصا عادلا لروح البط (أعتقد أنهم في الجاهلية كانو يعبدون البط وليس اللات والعزى وهُبَل)، لكنهم وجدوا معه اخته وزوجته. فكظموا غيظهم وقالوا له، في بلدنا، اللي معاه ستات مبيضربش في الشارع.


نعم كان ذلك معتقدا سائدا في قطاع واسع من القرية المصرية، أن المرأة هي التي تحمي زوجها وليس العكس. وأنه مهما ارتكبت من أخطاء فسيتجاوزون عنك إكراما لها. فالمرأة لا تهان ولا تهدد ولا تفزع في الشارع.


وأخبرتني جارتنا التي تقترب من السبعين، أنها كانت جميلة في شبابها، وتشير إلى قدميها التي تعجز عن حملها وتقول كنت بلبس قصير وكانت رجليّ حلوة، وأبوك كان بيعاكسني في الشارع.. ثم تضحك وتخفض صوتها حتى لا يسمعها أحفادها.. ولكن الشباب وقتها كان لا يجرؤ على التعدي على فتاة في الشارع وكانت المعاكسات تبدي الإعجاب والعاطفة والمغازلة الرقيقة، وكانوا يشعرون بالمسؤولية تجاه أهل حتتهم، ولو تعرّضت امرأة لخطر كانوا أول من يهب لنصرتها.


ربما كانت الخلاصة التي أجدها يوميا أننا لسنا في مجتمع ذكوري لكننا في مجتمع فاسد أخلاقيا ومنحرف نفسيا ويفتقد النضج الإنساني الكافي. ويحتاج إلى إعادة التعرف على نفسه وتعميق روح الرقي والمسؤولية الاجتماعية ونشر التقاليد الرشيدة.