التوقيت الإثنين، 23 ديسمبر 2024
التوقيت 03:13 ص , بتوقيت القاهرة

الدين والسبوبة.. والعلمانية

هل بوسع أحدٍ أن يُجادل في أن الإسلام هو دين الأغلبية الساحقة من المصريين؟ هل بمقدور أحد أن يُنكر أن تلك الأغلبية تعتنق المذهب السني؟ هل يستطيع أحد أن يدعي أن تلك المسألة حدثت لسببٍ غير أن هؤلاء وُلدوا فوجدوا أنفسهم مسلمين على مذهب أهل السنة والجماعة؟! هذه حقيقة معلومة للجميع، ولا أتصور أن باستطاعة أحد أن يجادل بشأنها، بيد أنه لتلك الحقيقة تفاصيل ربما تغيب عن كثيرٍ منا. ولا أعتقد أن وصفي لمن تغيب عنهم تلك التفاصيل بالأغلبية الساحقة سيعد ضربًا من المبالغة أو التهويل.

أن تعتنق المذهب السني، فهذا أمر يعني- أول ما يعني- أن تؤمن بالقرآن وإلى جانبه الحديث المنسوب للنبي. إيمانك بصحة القرآن وحده سيعد طلاقًا بائنا بينك وبين مذهب أهل السنة والجماعة. وإذا كنت تتصور أن بمقدورك أن تفتح المصحف وتقرأ القرآن الذي وصفه الله بأنه ميسر للذكر وتفهمه بعقلك الذي منحك الله إياه، فأنت لا تعلم شيئًا عن مذهب أهل السنة، فقد قالوا قديمًا: من كان شيخه كتابه فخطأه أكثر من صوابه. وقالوا أيضًا: لا تأخذوا العلم عن صُحُفِيٍّ، ولا القرآن مِنْ مُصْحَفِيٍّ. لماذا؟ لأن العلم لا بد أن يؤخذ من أفواه من المشايخ!

وهو قول لا يحتاج إلى فطنة أو نباهة كي تعلم أن الغرض من ورائه خلق ارتباط عضوي بينك وبين المشايخ. قول ينتصر للرجال على حساب الكتب الذي يُحقرها بوضوح. أما لماذا قالوا لا يؤخذ القرآن من مُصْحَفِيٍّ، فذاك أمر مرده أن للقرآن أسبابا للنزول، وفيه محكم ومتشابه، وفيه مجمل ومبين، وفيه الخاص والعام، وفيه الناسخ والمنسوخ، وفيه الخبر والإنشاء، وفيه المطلق والمقيد، وفيه وفيه وفيه.

لكن دع عنك كل هذا، فأنت لا تبحث عن ارتداء العمامة، لا تريد أن تحصل علي الدكتوراه في علوم القرآن، تريد فقط أن تُحصّل فكرة عامة عن أول أساسيات المذهب الذي تنتمي إليه بالولادة. هذه أبسط حقوقك يا أخي؛ أن تعرف بعض القشور عن دينك ومذهبك. وقتها ستبحث عن كتاب للتفسير، وليكن مثلاً تفسير الطبري، وهو أمر معناه أن تقرأ ستة عشر مجلدًا، أي ما يزيد عن عشرة آلاف صفحة، هي بمثابة المدخل إلى المنهج، والذي لو توقفت عنده لن تجتاز حتى تلك العتبة، إذ يتوجب عليك أن تعرف شيئًا عن بعض الآيات المحذوفة أو المنسوخة من هذا المنهج. وهي مهمة مستحيلة. نعم مستحيلة، فقد اختلفوا فيها ولازالوا مختلفين، منهم من قال إنها بضع آيات ومنهم من وصلت عنده إلى بضع مئات. مرة أخرى أنت لا تبحث عن العمامة، فقط تريد أن تعرف شيئًا؛ لذا فستقرأ كتابا واحدا فقط من خمسمائة صفحة في مسألة الناسخ والمنسوخ لعبد القادر البغدادي مثلاً.

ألف مبروك! لديك الآن فكرة عن تفسير القرآن من وجهة نظر رجل واحد فقط من ضمن عشرات الرجال الذين فسروا القرآن على مدار أربعة عشر قرنًا. لكن لا تتعجل، فالقرآن نفسه لا شيء. تلك هي الحقيقة المؤسفة- عندهم-  يا صديقي، مهما ادعوا العكس، القرآن بدون السنة أو الأحاديث لا يعني شيئًا. فالأحاديث شارحة ومفسره وأحيانًا قاضية. وحولها يتمحور المنهج الحقيقي للدارس أو الهاوي.

كتب السنة أو الأحاديث التي حظت بالمكانة السَامِقة لدى أهل السنة تسعة كتب: صحيح البخاري. صحيح مسلم. سنن الترمذي. سنن النسائي. سنن أبي داوود. سنن ابن ماجة. سنن الدرامي. مسند أحمد. موطأ مالك. لكن هذا لا يعني أنها الكتب الوحيدة، فهناك الكثير والكثير من المصنفات والمسانيد الأخرى.

هنا أيضًا أعيد تذكيرك؛ أنت لا تريد أن تصبح أسامة الأزهري ولا أبي اسحاق الحويني، تريد فقط أن تعرف شيئًا عن مذهبك الذي ولدت عليه، لذا فستكتفي بكتابين فقط من صميم المنهج. الأول صحيح البخاري، وهو أمر معناه أن تقرأ أربعة عشر مجلد تحوي قرابة تسعة آلاف صفحة، هي فتح الباري بشرح صحيح البخاري. أما عن صحيح مسلم فسيتوجب عليك أن تقرأ ثمانية عشر مجلدا هي المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج، بما يعني أن تضيف للتسعة آلاف صفحة أربعة آلاف ومائتي صفحة أخرى.

هنا يجب أن احذرك؛ أنت ما دخلت تلك المعمعة الخطرة إلا لتعرف بعض القشور عن دينك ومذهبك، لكن لو توقفت عند هذا الحد ستخرج منها – بلا شك – ملحدا أو مجنونا. والسبب هو التناقضات داخل الباب الواحد في كل كتاب، وبين الكتب وبعضها البعض.

وهو أمر لابد وأن تبحث له عن مخرج، كي تظل محتفظ بإيمانك، ولحسن الحظ المخارج موجودة. أما المخرج الأول فهو الناسخ والمنسوخ من الأحاديث، وهنا، وعلى عكس القرآن، يستحيل أن تكتفي بكتاب واحد، فالفارق الكمي بين القرآن والحديث مهول، وسيتوجب عليك أن تقرأ بضعة كتب، منها مثلاً؛ الناسخ والمنسوخ من الحديث لـ ابن شاهين. والاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الآثار لـ ابن قتيبة كأمثلة فقط، بما يعني أنك في احتياج لأن تضيف لقراءاتك حوالي ألف وخمسمائة صفحة على الأقل. وأما المخرج الثاني فهو تأويل مختلف الحديث، ولو اكتفيت بكتاب واحد فيه، كـ  تأويل مختلف الأحاديث لـ ابن قتيبة مثلاً، فسيعني أنك في احتياج لقراءة سبعمائة وخمسين صفحة أخرى.

عند هذا الحد، ستكتشف فجأة أنك لا تعرف شيئا عن سيرة النبي محمد ولا التاريخ الإسلامي، ولو اكتفيت بكتاب واحد مشروح في السيرة فسيتوجب عليه أن تقرأ ثلاثة آلاف وخمسمائة صفحة هي كتاب الروض الآنف في شرح السيرة النبوية لابن هشام، وتضيف إليهم حوالي ثلاثة عشر ألفا وخمسمائة صفحة أخرى هي عدد صفحات كتاب واحد في التاريخ الإسلامي اسمه البداية والنهاية لـ ابن كثير.

هل لاحظت أنك بعد كل هذا الجهد لا تعرف أي شيء عن المذاهب الأخرى؟ تعرف "بعض القشور" عن مذهبك فقط. لا تعرف شيئًا عن الفقه ولا الأصول، لا تعرف شيئاً عن علوم الحديث، ولا أي شيء عن طبقات الرواة والجرح والتعديل، وإذا كان رجل الدين يحمل درجة البكالوريوس في مذهبه، فربما حصيلتك المعرفية التي جمعتها من قراءة ما يربو على اثنين وأربعين ألف صفحة حتى الآن، تمكنك من اجتياز المرحلة الابتدائية بصعوبة. وخلف هذا المشهد القاتم، الذي يجعل من المعرفة الدينية مهمة أشبه بمهام بطل أفلام mission impossible يتوجب عليك بطريق الحتم أن تكد وتعمل لتطعم عيالك. فهل بمقدورك أداء المهمتين معًا في عالم لا يرحم الكسالى؟ هذا هو سؤال المقال في الحقيقة، وإجابته تحتم عليك أن تختار طريق من اثنين.

الأول: أن تتفرغ لأداء تلك المهمة المستحيلة لتحصل على شهادة محو الأمية الدينية، مقابل أن تتوقف عن العمل والإنتاج ويجوع عيالك، أو تفوض رجل دين لأدائها نيابة عنك، فتجعله ينوب عن عقلك ويتولى مهمة تغذيتك بالمعرفة كيفما شاء، وبأي مواد شاء. تلك هي الكهانة، وذاك هو مبغى الكهنة في كل عصر وحين. لذا تعمدوا دوماً أن يجعلوا المعرفة الدينية أشبه بمهام  توم كروز.

الطريق الثاني: أن تضع كل هذا خلف ظهرك، وتركز في شؤون العالم. تعمل وتنتج، وتستمتع بحياتك. وما اعتقدت فيه آمن به واعتبره نسختك الخاصة من الدين. بكلمات أخرى؛ تجعل الدين شأنك الفردي الخاص، ولا حاجة لك للانضمام إلى "جماعة". ما وافق عقلك وفطرتك فهو دينك، وما نفرت منه فألقه خلف ظهرك، هكذا بكل بساطة. أحقًا القضية بتلك البساطة؟

في الواقع لا. لأن هذا الطريق الأخير اسمه طريق العلمانية. وهو طريق أصعب ما فيه أنه يصطدم برجال الدين، فاختيار الناس له يعني ضمن ما يعني أن تنعدم سلطتهم على حياة الناس. ويعني أن رجل الدين، العاطل عن العمل والإنتاج، الآكل من كدنا وتعبنا وضرائبنا، بلا مردود أو نفع، سيضطر أن يشمر عن ساعديه وينزل سوق العمل، وإلا جاع عياله. وهل يقبل من ظل لقرون يأكل بالمجان على كل الموائد أن يتخلى عن تلك الميزة ويشمر عن ساعديه ليكد ويعمل؟

في إجابة هذا السؤال وحده تفسير لتحول رجل الدين إلى ثور هائج بمجرد مناداة أحدهم بالعلمانية. فالعلمانية تعني القضاء على السبوبة. فهل ترضى عزيزي العلماني أن تقطع عن رجل الدين السبوبة؟ أترضاه لأختك؟!