ابن رشد والإصلاح الديني
دعا الرئيس عبد الفتاح السيسي إلى الثورة الدينية، وكثُر الحديث في الآونة الأخيرة عن ضرورة الإصلاح الديني بين مؤيد ومعارض، ولا يُمكن لأي منصف الحديث عن الإصلاح الديني وحتمية إعمال العقل في النصوص الدينية دون الحديث عن ابن رشد، فالرجل يمثل محطة بارزة في الثقافة العربية الإسلامية، جعلت منه قنطرة بين الشرق الآفل والغرب المتوثب، وهو يُعد علامة فارقة في الفلسفة العربية الإسلامية التي انحازت إلى العقل وغلّبته على النقل.
ولد ابن رشد في قرطبة يوم 14 أبريل عام 1126م، وهو فيلسوف وطبيب وفقيه وقاضٍ وفلكي وفيزيائي مسلم، نشأ في أسرة من أكثر الأسر وجاهة في الأندلس، ويعد ابن رشد من أهم فلاسفة الإسلام، فهو يرى أنه لا يوجد تعارض بين الدين والفلسفة، ومن ثم فهو دافع عن الفلسفة وصحح فهم علماء وفلاسفة سابقين له كابن سينا والفارابي لبعض نظريات أفلاطون وأرسطو، قدمه ابن طفيل لأبي يعقوب خليفة الموحدين، فعينه طبيبًا له ثم قاضيًا في قرطبة، تولّى ابن رشد منصب القضاء في إشبيلية، وأقبل على تفسير آثار أرسطو؛ تلبية لرغبة الخليفة الموحدي أبي يعقوب يوسف، وتعرض في آخر حياته لمحنة حيث اتهمه علماء الأندلس والمعارضون له بالكفر والإلحاد ثم أبعده أبو يعقوب يوسف إلى مراكش وتوفي فيها عام (1198م).
عُرٍف ابن رشد في الغرب بتعليقاته وشروحه لفلسفة وكتابات أرسطو، والتي لم تكن متاحة لأوروبا اللاتينية في العصور الوسطى المبكرة، فقبل عام 1100 م، كان عدد قليل من كتب أرسطو عن المنطق هو الذي تم ترجمته إلى اللغة اللاتينية على يد الفيلسوف المسيحي بوتيوس، على الرغم من أن أعمال أرسطو الكاملة كانت معروفة في بيزنطة، ثم بعد أن انتشرت الترجمات اللاتينية للأعمال الأخرى لأرسطو من اليونانية والعربية في القرن الثاني عشر والثالث عشر الميلاديين أصبح أرسطو أكثر تأثيراً على الفلسفة الأوروبية في العصور الوسطى.
وقد ساهمت شروح ابن رشد على ازدياد تأثير أرسطو في الغرب في العصور الوسطى، وفي أوروبا العصور الوسطى أثرت مدرسة ابن رشد في الفلسفة والمعروفة باسم الرشدية تأثيرًا قويًا على الفلاسفة المسيحيين من أمثال توما الأكويني، والفلاسفة اليهود من أمثال موسى بن ميمون، وكانت كتابات ابن رشد تدرس في جامعة باريس وجامعات العصور الوسطى الأخرى، وظلت المدرسة الرشدية هي الفكر المهيمن في أوروبا حتى القرن السادس عشر الميلادي، وقد كتب جورج سارتون أبو تاريخ العلوم ما يلي: « ترجع عظمة ابن رشد إلى الضجة الهائلة التي أحدثها في عقول الرجال لعدة قرون»، ومن أقوال ابن رشد: "الحَسَن ما حَسَّنه العقل، والقبيح ما قبَّحَه العقل"، "الله لايمكن أن يعطينا عقولاً ويعطينا شرائع مخالفة لها"، "العلم في الغربة وطن، والجهل في الوطن غربة"، "اللحية لا تصنع الفيلسوف".
ودعا ابن رشد إلى أهمية أن يكون العقل هو المرجع للنصوص الدينية، وإذا كان العقل هو مرجعنا في فهم النصوص الدينية، فهو مرجعنا أيضًا في فهم الواقع واكتشاف قوانين الطبيعة وفي الاستفادة من التجارب والخبرات، وفي التصدي للمشاكل والعمل على حلها، وهذا معناه أننا بفلسفة ابن رشد ومنهجه مواطنون أحرار ولسنا قطعانا تخاف وتطيع وتسمع للأصوليين الدينيين المتطرفين؛ لأن الاحتكام إلى العقل يحرر المؤمنين من سلطة رجال الدين، ولذلك وقف رجال الدين من العقل موقف العداء الصريح وشككوا فى قدراته واعتبروه خطرًا يهدد الإيمان، كما اعتبره الحكام خطرًا على الدولة، لأن الاعتراف بمرجعية العقل اعتراف بمرجعية أصحابه، ومن ثم ينتفي المبدأ الذي يقوم عليه الطغيان، وهو عجز الرعية وحاجتها الدائمة إلى راع أو أب أو مستبد عادل يفكر لها ويختار بالنيابة عنها، ويفرض عليها ما يراه وما يختاره، وبهذا الحلف الذي انعقد بين أمراء الأندلس وفقهائه سقط منهج ابن رشد، واتهم صاحبه بالكفر والزندقة، وأحرقت كتبه فى قرطبة، ونفى ابن رشد إلى قرية من القرى التى كان يسكنها يهود الأندلس تعبيراً عن أنه لم يعد مسلماً ولم يعد يستحق أن يعيش مع المسلمين!!
وبسقوط منهج ابن رشد سقط العقل العربي وفقد ثقته في نفسه، واستسلم للنقل والتقليد والطغيان، ولم تمض على هذه المحنة التي دخلها ابن رشد إلا ثلاثة قرون انتهت بسقوط الأندلس كله من أقصاه إلى أقصاه ورحيل العرب والمسلمين والإسلام عنه، فى الوقت الذى كان فيه المثقفون الأوروبيون في إيطاليا وإسبانيا وألمانيا وفرنسا يكتشفون ابن رشد، ويترجمون مؤلفاته إلى العبرية واللاتينية، ويتأثرون بها، ويتحررون من سلطة الكنيسة ويحتكمون للعقل فى فهمهم للإنجيل، ويستعيدون علاقتهم بالفلسفة والمنطق، ويخرجون بالتالى من عصور الظلام إلى عصر النهضة الذي، انتقلوا منه إلى عصر الاستنارة الذي انتهى بهم إلى هذا العصر الحديث، عصر الديمقراطية والعلم وحقوق الإنسان.
في وسط ظلام الأصولية الدينية الحالك الذي يحيط بنا
وفي ظل ارتفاع صوت التطرف، وغياب العقل
وفي ظل هيمنة الخرافات ورفض غربلة التراث.
هل نحن اليوم بحاجة إلى ابن رشد؟!!.