التوقيت الإثنين، 23 ديسمبر 2024
التوقيت 08:49 ص , بتوقيت القاهرة

المتحررون.. كنز المحافظين الذي لا يفنى

تبدو مصر اليوم وكأنها تشهد جولةً جديدةً من جولات الحرب الفكرية، المستمرة منذ ما يزيد على قرنين من الزمن، بين دعاة الليبرالية أو التحرر وخصومهم من ذوي النزعة المحافظة، دون أن يتمكن أحد الطرفين من حسمها لصالحه تمامًا. ورغم أن كاتب السطور يعتبر نفسه معتنقًا لمبادئ الفلسفة الليبرالية بمعانيها الشاملة، إلا أنه يعتقد ــ دون أن يفقد بالضرورة تفاؤله ــ أن المحافظين سيتمكنون من حسم الجولة الدائرة لصالحهم.


لِمَ يظن الكاتب هذا؟.. اسمح لي سيدي القارئ أن أبدأ إجابتي بالاقتباس التالي:


".. إذ الواقع أن الآراء المخالفة لعُرف الجمهور لا تستطيع اِسْترعاء الآذان واستهواء الألباب إلا بفرط الاعتدال في اللهجة، وشدة التوقي في العبارة، واجتناب كل مالا داعي له من ضروب الإساءة وصنوف الاعتداء. فإذا حاد صاحب الآراء المخالفة عن هذه السبيل، ولو قيد أظفور، خسر لا محالة شيئًا من نفوذه، وأضاع جانبًا من تأثيره. ولكن الأمر ليس كذلك بالنسبة لأصحاب الآراء السائدة، فإنهم لا يخسرون شيئًا مهما أفرطوا في الطعن على خصومهم، وأجحفوا في التحامل على أقرانهم. بل ذلك يزيدهم قوةً وسلطانًا لأنه يخوِّف الناس من الاعتراف بغير العقائد السائدة، ويمنعهم من الاستماع لغير الآراء السارية".


الاقتباس السابق ليس من أقوال عالم اجتماع يتسم بالتقليدية أو مُنظرٍ سياسي محافظ أو حتى رجل يتسم بالوسطية يكتب في بريد القراء، بل هو مما ينادي به فيلسوف الليبرالية الأشهر "جون ستيوارت مِل"  (1806- 1873) في الفصل المعنون "في حرية الفكر والمناقشة" من كتابه "عن الحرية.. On Liberty". هذا الكتاب الذي يعده كثيرٌ من الليبراليين في كل العالم في آخر قرنين واحدًا من أمهات المراجع الأساسية التي يستقون منها مبادئهم العامة.


دعنا سيدي القارئ نعود بالذاكرة للوراء قليلاً، لعامين لا لقرنين، ونقرأ المشهد الحالي في ضوء ما يقوله جون ستيوارت مِل في الفقرة المقتسبة. دعنا نعود بالتحديد إلى لحظة الثلاثين من يونيو والتي تحل ذكراها الثانية بعد شهرين من اليوم.


في الثلاثين من يونيو تحالفت أطياف المصريين (المسيسة وغير المسيسة) ضد مشروع الإسلام السياسي الذي تجسد في الواقع في حكم جماعة الإخوان المسلمين. بدا التحالف الشعبي في ضخامته وإصراره كالطوفان الذي يعد الوقوف في وجهه ضربًا من الجنون. وهو ما دفع حزبًا ينتمي إلى الإسلام السياسي كحزب النور مثلاً أن يعلن انحيازه لاختيار الشعب وتخليه عن جماعة الإخوان بل وتبرؤه منها علانيةً. كان على التحالف الطوفاني أن يستمر حتى يقضي على شرعية الإخوان الداخلية والخارجية نهائيًا، فمررنا بلحظات التفويض وإقرار الدستور الجديد وانتخاب السيسي رئيسًا بأغلبية طوفانية، وهو ما وضع العالم كله أمام الأمر الواقع. كذلك ساهم الإرهاب المحلي والإقليمي المتزايد في تكريس الرفض لمشروع الإسلام السياسي واعتباره عدوًا لا مناص من هزيمته بل القضاء عليه تمامًا.


هنا أخطأ البعض في قراءة المشهد. 


توهم كثيرٌ من المتحررين، والذين لعبوا كبقية أطياف الشعب دورًا لا يمكن إنكاره في الحشد للحظة الثلاثين من يونيو، أن جموع الشعب التي خرجت لتطيح بالإخوان وتعلن عداءها السافر لمشروع الإسلام السياسي قد خرجت أيضًا على قيمها المحافظة والمستقرة. ظن هؤلاء أن صمت الأطياف الأخرى ــ المحافظة بطبيعتها ــ إبان حكم الإخوان، على بعض أوجه الخطاب الليبرالي (الذي يحمل الكثير من النقد بل والعداء المعلن للقيم المحافظة المستترة بالدين) هو تأييد لهذا الخطاب في مجمله. شاع توهم ساذج أن لحظة الثلاثين من يونيو قد أتت لتتوج تغيراً فكرياً شاملاً نحو الحداثة والتحرر، كما شاع من قبله توهم لا يقل عنه سذاجة أن لحظة الخامس والعشرين من يناير قد أتت لتحدث تغييراً سياسياً شاملاً نحو الديمقراطية والتعددية.


نسي كثير من المتحررين عن سهو، أو ربما تناسوا عن عمد، أن تحالف الثلاثين من يونيو لم يقم على أي أساس فكري أو فلسفي بقدر قيامه على أساس من توافق حيوي ــ لكن مؤقت ــ في مصالح أطرافه التي كان حكم الإخوان يهددها جميعًا. هذا التوافق المؤقت الذي انتبه له الراحل عبدالله كمال ليصف في إيجاز مدهش اصطفاف الأطياف السياسية في مواجهة الإخوان المسلمين بــ "التحالف الهش". على الجانب الآخر قرأ المحافظون ــ لعمق درايتهم بالشعب ــ المشهد على نحو أفضل.


أدرك المحافظون أن لحظة الثلاثين من يونيو وما يتبعها من حرب على الدولة أن تخوضها هي لحظة تتطلب الكمون. أعلنوا تأييدهم الصادق للدولة وتركوا الساحة للمتحررين لينشروا أفكارهم التحررية كما شاءوا في مجتمع تقليدي ومحافظ. ومع النشوة المفرطة توالت أخطاء بعض المتحررين القاتلة. أخذوا يصبون سهام نقدهم على تراث المجتمع وقيمه وعاداته وتقاليده. خلطوا بين التوعية والتجريح، ومحوا الخطوط الفاصلة بين المصارحة والتهجم. ارتكبوا كل الأخطاء التي أوصى "جون ستيوارت مِل" بضرورة تجنبها. خالفوا عرف الجمهور المحافظ والتقليدي وتخلوا عن الاعتدال في اللهجة. ظنوا أن دعوة الرئيس (الذي لا تخطئ العين ميله  للمحافظة) إلى تجديد الخطاب الديني هو إشارة لهم بتحطيمه. استسلم بعضهم للغرور والثقة الزائدة بعد أن تلبستهم روح فلسفة التنوير. ظنوا أن براعتهم في تصيد الشاذ والمنفر في حديث المحافظين المعاصرين وتراثهم كفيل بحسم المعركة لصالحهم. نسوا أنهم وإن كانوا يجيدون التصويب كأبناء المدن، فالخصم يجيد نصب الفخاخ كأبناء الريف. تركهم خصومهم من المحافظين يجتاحون أرض المعركة أمام الجمهور، بينما هم في الحقيقة يستدرجونهم للحفرة العميقة حيث يجهزون عليهم بلا جهد يذكر أمام أعين ومباركة الجمهور "الخائف على عقائده السائدة" بتعبير جون ستيوارت مِل.


 هذا الجمهور الذي كانت قطاعات كبيرة منه مهيأةً حتى الأمس القريب لمناقشة الكثير من ثوابتها الفكرية ارتدت للمحافظة. هذا الجمهور لا يجد غضاضة الآن في تأييد الفكرة المتنامية بقصر الحق في مناقشة الأمور المتعلقة بالتراث على رجال الدين. هذا الجمهور لا يجد غضاضةً في اعتبار كل دعوة لتحسين وضع المرأة هي دعوة مستترة للانحلال. هذا الجمهور الذي من السهل عليه تقُبل أن تصف جريدة يومية في صدر صفحتها الأولى حزبًا يدعو للعلمانية بأنه حزب الملحدين، لا يجد صعوبة في تصديق ما يقوله له المحافظون أن كل الدعوات التحررية تحت أي ستار سياسي أو فكري لا تستهدف سوى تشويه ثقافته وغزوها ثم القضاء عليها تمامًا. بل أن كثيرًا من الناس الطيبين يمكنهم قبول فكرة الشيخ السمح الذاهبة إلى أن داعش هي من منجزات الحداثة. فالشيخ صاحب الابتسامة الواسعة يبرئهم ويضع الإرهابيين الذين يقطعون الرؤوس بسيوفهم مع "الليبراليين" الذين يصدعون الرؤوس بأفكارهم في سلة قمامة واحدة اسمها "الحداثة".


لم يصدق الجمهور ذلك؟.. ربما لأن بعض المتحررين الذين تُركوا (بدهاءٍ بالغ من المحافظين وسلبيةٍ مفرطةٍ من المعتدلين) ليتصدروا المشهد لم يسمعوا بالحكمة القائلة بعدم جدوى الوعظ بين المؤمنين. وهي حكمة تُنبه كل من يحاول نشر أي أفكار جديدة إلى ضرورة أن يتبنى خطابًا مقبولاً لدى من يحاول إقناعهم وليس لدى من هم مقتنعون بالفعل. بعض المتحررين ظنوا أن كل الجمهور متحررٌ بطبيعته مثلهم أو يود أن يصبح كذلك. وبدلاً من أن يحاولوا إنشاء خطاب يستميل الجمهور الواقف في المنتصف بين قيم المحافظة والتجديد، تبنوا خطابًا يصعب على غير المتحررين قبوله، وكأنهم يعظون المؤمنين بالفعل. ضاق الجمهور بهذا الخطاب ووجد راحته في أحضان الخطاب المحافظ الذي يتسع لمخاوفه وأوهامه. كيف يتسع صدر الجمهور لخطاب يصف الوسطية بأنها تطرف مقنع وداعشية مستترة؟ كيف يطمئن الجمهور لخطاب يتهم كل رجاله بالذكورية المتعفنة ونسائه بالعبودية المستترة بالحجاب؟ نسيَ أصحاب هذا الخطاب (الذي هو أيضًا في مسيس الحاجة للتجديد والمراجعات الفكرية) أن الأوعية التي تقدم فيها الأفكار لا تقل أهميةً عن الأفكار ذاتها. اندفعوا في خضم الأضواء والشهرة والتصفيق من المؤمنين بهم إلى الشراك التي نُسجت لهم في أناةٍ من الخيوط المتناثرة من أقوالهم. وفجأة وبعد أن ظن أصحاب "نظرية الصدمة" أنهم قد ربحوا الجولة، فوجئوا بأن أقوالهم التحررية "الصادمة" قد باتت عنوانًا مشبوهًا سيئ السمعة تندرج تحته كل مسميات التنوير والحداثة والتجديد والليبرالية والعلمانية.. للأسف.


قدم هؤلاء المتحررون الصداميون بنزق مفرطٍ وعلى طبق من فضة مُزين بقطع الماس وموشى بخيوط الذهب، هدية للمحافظين لم يكن من اللياقة رفضُها. قبِل المحافظون الهدية التي لم يحلموا بها وها نحن نشاهدهم يردونها في كرمٍ بالغ. وكما يصف جون ستيوارت مِل في إيجاز بليغ، ها نحن نرى أصحاب الآراء المتوافقة مع العرف "يفرطون في الطعن على خصومهم ويجحفون في التحامل عليهم دون أي قلق من نقد الجمهور". وبدلاً من أن يدعو المتحررون الناس لأفكارهم ويشرحونها لهم في هدوء وتعقل، أصبح عليهم الآن أن يصححوا الصورة البائسة التي تتكون عنهم عقب كل مرة يفتحون أفواههم فيها. فالاعتذار والتعلل بسوء الفهم ومحاولات التفسير والتبرير لا تعني في ثقافتنا غير الاعتراف بالهزيمة.


قد لا تقتصر الخسارة على الطائشين والمتهورين من دعاة التحرر، بل ربما ينجح المحافظون الدهاة في انتهاز الفرصة وتأليب الجمهور على كل الداعين للتحرر والليبرالية وإعمال الفكر الحر من المستنيرين المعتدلين كذلك. هؤلاء الأخيرين الذين يدرك المحافظون جيدًا أنهم أكثر خطورةً عليهم بكثير من أصحاب الدعوات الصاخبة.


ملحوظة: اعتمد كاتب السطور على ترجمة طه السباعي لكتاب "الحرية" لجون ستيوارت مِل التي نُشرت ضمن سلسلة مكتبة الأسرة عام 1996.