التوقيت الأحد، 17 نوفمبر 2024
التوقيت 04:14 م , بتوقيت القاهرة

نعم.. نريد حرية الوصول للمرأة

كم مرة سمعت جملة (أنهم لا يريدون حرية المرأة بل حرية الوصول للمرأة)، بالتأكيد سمعتها آلاف المرات بمقدار ما تُكررها عقول العصافير من حولك في كل مكان.

ولكن هذه الجملة التي أصبحت من كلاسيكيات ثقافة الإسلامجية ليست قديمة جدا بمقدار ما تتصور، بل هي جملة حديثة جدا وعمرها لا يتجاوز أربعة عشر عاما، فالجملة جاءت أساسا  في شريط بعنوان العفيفة للشيخ السعودي عبد العزيز السويدان في أكتوبر 2001، بعد شهر واحد من هجمات سبتمبر، وأظن أنك لن ترصدها في أي مقال أو خطبة قبل هذا التاريخ.

ليس هدفي هنا أن أؤرخ للأكليشيهات الإسلامجية، ولكن لتوضيح أن أشياء كثيرة تتصورها قديمة جدا وثابتة لا تتغير، لا تكتسب وضعها هذا في عقلك إلا بحكم التكرار، فإذا سمعت هذه الجملة آلاف المرات في الخمس عشرة سنة الأخيرة، فإنك ستتصور أنك تسمعها منذ طفولتك، وأنها جزءٌ من تكوينك.

هذا بخصوص ألفاظ الجملة، أما مضمونها فهو مضمون متكرر لأن المشايخ  يحملون موقفًا معاديًا للمرأة على طول الخط، ولا مانع لديهم من اختراع الخزعبلات التي تؤيد وجهة نظرهم، كان أحد نجوم مشايخ التلفزيون في الثمانينات يقول لماذا يرتدي لاعب التنس الرجل الشورت بينما ترتدي الفتاة الفراشة؟ لأنهم يريدون الاستمتاع بالنظر إلى مؤخرتها عندما تقفز أثناء اللعب، فيما يبدو إذن أن الشيخ كان يظن الجميع مصابين بالهوس الجنسي ليصيبهم  السعار أثناء مشاهدتهم لمباراة تنس، كما أنه لم يقل لنا ولماذا إذن يبدو المايوه أو لباس البحر النسائي أكثر احتشامًا من المايوه الرجالي سواءً كان بقطعة واحدة أو حتى مايوه بكيني من قطعتين، لماذا يكشف الرجل الغربي جسمه اكثر في لبس البحر أم أن من صممته امرأة؟ والسؤال الأهم لماذا يُعتبر (البكيني) كارثة شهوانية،  بينما هو يغطي صدر المرأة الذي  يعتبر في الفقه المقدس لذات الشيخ ليس من عورة الأَمة، ومُباح كشفه في الأسواق للعامة للأمة المسلمة، بل أن كشفه هو الأصل وقد تُضرب وتعاقب من لا تلتزم به لتشبهها بالحرائر.

في  الاقتصاد كان هناك  قانون "جريشام"، الذي يقول بأن العملة الرديئة تطرد العملة الجيدة من السوق، لأنه طالما أن العملة الرديئة تملك نفس قوة العملة الجيدة، فإن الجميع سيميلون لتخزين الجيدة والتعامل في السوق بالرديئة. وكان هناك أيضًا الإغراق، أي إغراق السوق بكمية هائلة من البضاعة الرخيصة المباعة بأقل من ثمنها، بحيث تعجز البضاعة الجيدة عن المنافسة، فيتوقف إنتاج البضاعة الجيدة، ثم يبدأ المغرقون في رفع أسعار بضائعهم بعد إزاحة المنافسين، بحيث يحصل المستهلك في النهاية على بضاعة فاسدة بسعر مرتفع.

إذا انتقلنا من الاقتصاد إلى عالم الفكر مرة أخرى، فإنّ هذا بالضبط ما حدث، فقد تمت عملية منظمة من طرد الجمال لحساب القبح والجودة لحساب الرداءة، وذلك باستخدام عنصري الإغراق بالعدد والتكرار ،والرداءة في المضمون، فقامت آلاف المطبوعات والنشرات والبرامج والكتيبات بالترويج لكثير من السخافات وتكرارها باستمرار، بغرض تحويلها إلى حقيقة في ذهن المتلقي، نذكر من ذلك مثلا ( الغناء حرام) (البنطلون حرام)، وهي أمور لم تكن تُناقش قبل بداية الثمانينات إلا في نطاق الجماعات المتطرفة المعزولة.

بل أزيدك من الشعر بيتًا، قبل بداية التسعينات كان غالبية المصريين الرجال مسلمين وغير مسلمين يرتدون خاتم زواج أو (دبلة) من الذهب، لم تكن هناك فكرة شائعة مفادها أن ارتداء الدبلة الذهبية حرام، برغم وجود النص المعروف في حديث البخاري على حاله، بإمكانك الرجوع لكل أقاربك الأكبر سنًا للتأكد من هذا، ولكن فجأة أصبح (ارتداء الدبلة لذهبية للرجال حرام ) لماذا؟ لأنه في مسلسل اسمه (اللاعبون بالنار)، تم إنتاجه عام 1990، تم الترويج لفكرة أن أحد الأبطال المتدينين رفض ارتداء دبلة ذهبية واستبدلها بالفضة لشدة تدينه، بالطبع كان ذلك في عام 1990 دليلا على المبالغة في التدين أشار لها المسلسل بتأثير تصاعد أفكار الإسلامجية، وتلقفها الناس لتصبح واقعًا خلال عشر سنوات، وهذا يوضح كيف زرع الإعلام كل أفكار الإسلامجية في المجتمع، وساعده في ذلك رغبة الناس في ادعاء التدين من جهة وفي توفير ثمن الذهب من جهة أخرى.

في أواسط التسعينات أثيرت قضية ختان الإناث بعد أزمة نتجت عن تصوير عملية الختان وبثها على سي إن إن، والغريب أن السلطات المصرية هاجمت المذيعة التي صورت ما جرى للقناة، واتهمتها بالإساءة لسمعة مصر، ووصلت الاتهامات لها بالعمالة من رجال ومن سيدات، الغريب أن أحدا لم يجرؤ أن يهاجم والد الفتاة إلا لسماحه بالتصوير وليس لقتله لأنوثة ابنته عمدًا، ولم يهاجم أحد حلاق الصحة  أو الطبيب الذي يرتكب هذه الجريمة إلا على استحياء، ولم يهاجم أحد وزارة الصحة، ولا المؤسسات الدينية ولا ثقافة الأهالي إلا فيما ندر.

دعنا نتذكر إذن أن الدولة اعتبرت أن مشكلة (حلاق الصحة) أنه غير متخصص وقد يسبب نزيفًا مميتًا للإناث، ودعت المواطنين للذهاب ببناتهم إلى الطبيب المتخصص لإجراء ختان لابنته، هل رأيتم سخافة طبية أكثر من هذه؟

آنذاك ظهر شيخ الأزهر السابق جاد الحق علي جاد الحق مستنكراً ضجة المثقفين قائلاً: (كل ده عشان حتة جلدة)، معبرا بالتالي عن رؤيته لحقوق المرأة ولكرامتها، بينما ظهر نفس الشيخ التلفزيوني صاحب البرنامج الأسبوعي الشهير، وصاحب نظرية لاعبات التنس  ليقول كلاما لولبيا ردا على كلام لمسؤول في الصحة قال فيه إن كل الأديان تحرم ختان الإناث، فاستفاق الشيخ للرد عليه قائلاً:

" أما بالنسبة للأنثى أو ما يتصل بقطع شيء من الأنثى فاسمه خفاض، وهو ليس فرضًا ولا سنة، ولكن العلماء يسمونه كرامة للمرأة، فرسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين قال للقابلة أم عطية: " اخفضي ولا تنهكي"، فإنه لم يمنع الخفاض، ولكن شرطه بشرطين: أمر "بالخفض" ونهى "بلا تنهكى"، وعلة الأمر بالخفض أن الذي يقطع من الأنثى إن كان زائداً وعاليًا عن حواف محلها ينقطع الزائد منه فقط، لأن بروزه يجعله عرضة لاحتكاك الثوب أو أي شيء به فتظل الأنثى معرضة للاشتهاء، أو يهيّج فيها الشهوة فتتهافت على الرجل مما يسقط كرامتها عنده، أما الانهاك فقد جاء النهي عنه لما يسبب من متاعب فى العملية الجنسية؛ لأنه يجعل الرجل يريق قبل أن تشتهى المرأة، فتكبت غريزتها، ويترتب على ذلك متاعب تعقد المرأة وذلك خطر الإنهاك".

 إذن فالختان في رأيه يراه العلماء مكرمة، ثم أدخلنا في متاهة ( ختان أم خِفاض)، ثم توصل إلى أنه واجب إذا كانت الأعضاء التناسلية الخارجية (الشفرين والبظر) للفتاة زائدة وعالية  أن يتم بترها لأنها ستحتك بثوبها مثيرة شهواتها، فتتهافت على الرجل مما يُسقط كرامتها عنده".

هذه النماذج تُعيدنا إلى ما بدأنا به وهو استمرار تكرار سخافة أننا لا نُريد حرية المرأة بل نريد حرية الوصول إليها. هل لاحظت المعني الخفي في جملة ( حرية الوصول إليها)؟ هل الوصول لأي إنسان صعب إلا إذا كان أسيرًا أو مقيدًا؟

إنه معنى يُشبه أن يقول لنا سجان في أحد السجون إنكم لا تريدون حرية السجين بل حرية الوصول للسجين، ويحولك إذن منطقهم الأعوج لمناقشة حقيقة نوايا الساعين لمساعدة السجين دون أن يناقش أنه أقر بحقيقة كونه سجينا، وأنه راضٍ وسعيد بكونه سجينًا، ويريده أن يبقى في سجنه للأبد، والحقيقة الأهم أنه هو سجانه وهو من رماه في السجن.

حرية الوصول لأي إنسان أمر طبيعي، الوصول له بالكلمة  وبالمصافحة وبالتعليم وبالتعلم وبالحوار وبالنقاش وبالمشاعر أمر طبيعي، ما هو غير طبيعي أن يكون الوصول لإنسان صعبًا لأن المعنى الوحيد لذلك هو أنه سجين، كلامكم السفيه عن حرية الوصول للمرأة يعني أنكم تُقرون وتعترفون أن الوصول للمرأة جريمة عندكم، وأنها يجب أن تنقطع عن العالم وألا تتعامل مع أحد  سواكم.

إذا كان يسعدكم إذن أن تقولوا جملتكم هذه فنحن نُقر بها، نعم نحن نريد حرية الوصول للمرأة لأن أول خطوة لحريتها هي حرية الوصول لها وحرية وصولها للآخرين، ولكن الوصول إليها لا يعني انتهاك كرامتها، لأن كرامتها لدينا ليست مرتبطة باحتكاك الثياب في أعضائها التناسلية، ولا يعني الانتقاص من احترامها، لأن احترامها ليس مرتبطًا بتاريخ حياتها الجنسية، ولا يعني معاملتها باحتقار لأن مشاعرها وصحتها النفسية والجسدية وحقها في الاستمتاع بحياتها أهم لدينا من أن تسحق جميعابإزالة جزء من جسدها باعتباره (حتة جلدة)، وأهم  من أن يتم قتلها أو تعذيبها أو إهانتها لأنها لم تحافظ على جزء آخر من جسدها حتى لحظة زواجها وهوالجزء الأقرب  فعلا  لأن يستحق أن يقال عليه (حتة جلدة) .

المرأة لها عقل وإرادة، وأيا كان تصرفها وسواء صنفتموه بأنه صواب أو خطأ، فهو لا يعني السماح لكم  بتهديد حياتها أو سلامتها الجسدية، أو إيذائها ماديًا ومعنويًا، كفاكم إغراقًا لنا بسخافاتكم الرديئة.

للتواصل مع الكاتب