التوقيت الإثنين، 23 ديسمبر 2024
التوقيت 12:08 ص , بتوقيت القاهرة

هل تحقق مأساة "الحرَّاطين" نبوءة مؤسس موريتانيا؟

على هذا الكوكب، لايزال بشر يمثلون شعوبا وقوميات يقدر عدد أفرادها بالملايين، يعيشون تحت ظلال الرق والعبودية، لا اعتراف بهم، ولا حقوق لهم، ينتظرون فقط أن يعاملوا كأقرانهم من مواطني بلادهم دون تمييز أو عنصرية، أن يحصلون على ما يتمتع به غيرهم من حقوق، وعليهم ما عليهم من واجبات، "الحرَّاطين" في موريتانيا أبرز هؤلاء.

قضية تضرب جذورها في عمق التاريخ، أعادتها إلى السطح من جديد مسيرة شارك فيها آلاف الموريتانيين، أمس الأربعاء، في الذكرى الثانية لصدور ميثاق الحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية لشريحة "الحراطين"، وسط حضور كبير من قادة الرأي وممثلي الأحزاب والناشطين في نواكشوط، وتحت شعار "الحرية والعدالة والمساواة في موريتانيا الموحدة، العادلة والمتصالحة مع نفسها".

"الحرَّاطون".. من هم؟

يطلق هذا المصطلح في الأغلب على العبيد أو العبيد المحررين حديثا في موريتانيا، وهناك من يقول إن أصل الكلمة أتى من "الحراثين"، أي العاملين في الزراعة من العبيد، وفي كل الأحوال هم شريحة تمثل ما يناهز 50 % من مجموع سكان البلد، ل يزالون الفئة الأكثر تهميشا سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا.

"الحرَّاطون" يتكلمون جميعا اللغة العربية باللهجة الحسانية، بوصفها لغتهم الأم، ولا يمكن تمييزهم عن باقي مكونات المجتمع الموريتاني العربي من ناحية اللغة والملبس والمأكل والعادات الاجتماعية، أو حتى في المكونات الثقافية الأخرى من أدب وموسيقا ومرويات شعبية، إلا في بعض المميزات الثقافية الخاصة بهم مثل استخدام آلة "النيفارة" (الناي)، وأناشيد "التغريبة"، التي تبث الشوق للحرية وحرارة المعاناة من العبودية والظلم والتهميش والقهر الاجتماعي .

معاناة لا تنتهي

ينقسم سكان موريتانيا إلى 3 فئات، أولها جماعة العرب والبربر التي تشكل الطبقة الحاكمة، والثانية هي الجماعات الأفريقية الواقعة جنوبي الصحراء الكبرى "الزنوج"، وأخيرا المجموعة السوداء "العبيد" وهم ما يطلق عليهم لقب "الحرَّاطين".

وتمثل المجموعة العربية - البربرية أقلية، إلا أنها تهيمن على الحياة السياسية والاقتصادية للبلد، أما الحرَّاطين والزنوج، الذين يشكلون أكثر من 70% من السكان، يعانون من تقزيم دورهم وإبقائهم في وضعية مواطنين من الدرجة الثانية.

وعلى الرغم من منع العبودية رسميا في البلاد 3 مرات، كان آخرها في 1981، بعد حملة اعتراضات واسعة نجمت عن بيع إحدى النساء، وعلى الرغم من إصدار قانون آخر يجرم ملكية العبيد ويهدد المالكين بالسجن وبالغرامات المالية الباهظة في 2007، إلا أن "أسواق النخاسة" لاتزال منتعشة في هذا البلد العربي الإفريقي.

وفي أحدث تقرير لرصد "العبودية"، أعدته المنظمة الحقوقية الاسترالية "Walk Free Foundation"، العام الماضي، تحتل موريتانيا المرتبة الأولى في مؤشر العبودية في العالم، إذ لايزال هناك حوالي 155.600 شخص في البلاد، أي حوالي 4 % من السكان، يعيشون في ظلمة الرق وما يشمله من ممارسات شبيهة ببيع البشر، والزواج القسري، والاستعباد القائم على أساس النسب.

نضال مستمر

نضال الرقيق واكب استقلال موريتانيا عن الاحتلال الفرنسي عام 26 نوفمبر من عام 1960، حيث كانت الدولة تعي خطورة العبودية، ما دعا الرئيس الراحل والمؤسس للدولة الحديثة، المختار ولد داداه، إلى القول في مذكراته "إن قضية الحراطين ستقود موريتانيا إما إلى نزاع مسلح يدمر البلاد أو إلى تغيير مجتمعي واسع".

وفي مرحلة لاحقة، أنشأت مجموعة من قيادات "الحرَّاطين" حركة "الحر" عام 1978، بيد أن النظام استوعب حركاتتهم الاحتجاجية لاحقا، وعيَّن الكثيرين من قادتهم في مناصب عليا، شملت تعيين بعضهم في مناصب وزارية وسيادية، فيما شغل آخرون منصب الوزير الأول مثل رئيس الوزراء الموريتاني الأسبق، أسقير ولد مبارك.

وأخذت الحركات النضالية للحراطين مسارا جديدا بعد انقلاب 2005، وظهور حركة "إيرا" المدافعة عن العبيد السابقين في 2008،  ليبدأ تاريخ من النضال الجديد هو الأخطر من نوعه، حيث بدأت الدعوات إلى العصيان المدني وإلى سجن أسياد العبيد، وحتى حرق بعض الكتب الدينية التي رأى فيها العبيد السابقون تكريسا للرق و"تعلية" من الطبقية.

ميثاق الحقوق

قبل عامين، تأسس الميثاق من طرف مجموعة من نخب "الحرَّاطين"، وقدم وثيقة تسعى إلى تلبية الحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية لشريحة العبيد السابقين، الذين لايزالون يعانون من آثار الرق، ويدفعهم الفقر والجهل والاضطهاد إلى خدمة أسيادهم السابقين لكسب لقمة عيشهم.

ويتهم الميثاق السلطات بالاستمرار في تهميش هذه الشريحة، وعدم تطبيق القوانين والتواطؤ مع مرتكبي جرائم العبودية، كما يرى أن جناح التطرف والإقصاء ونكران حقوق المواطنة لايزال هو المهيمن، مؤكدا أن موريتانيا تستحق أفضل من ذلك خدمة للسلم الاجتماعي وتوطيدا للحمة الوطنية، بنشر العدالة وثقافة الإنصاف بين عموم الناس.

ويؤكد الواقفون وراء الميثاق أن هدفهم الوحيد هو "تحقيق الحق والحقيقة لمفهوم المواطنة الحقة، المبنية على إشاعة العدالة الاجتماعية، وتجسيد الحرية والمساواة بين المواطنين، وتشييد الوحدة الوطنية على أسس سليمة وراسخة، ناجعة ومستديمة، عملا بمبدأ المصارحة قبل المصالحة".

أرقام وإحصائيات

"ميثاق الحراطين" يقدم إحصائيات ومقارنات لواقع هذه الفئة في أجهزة الدولة، موضحا أنه على مستوى غرفتي البرلمان لا يوجد سوى أقل من 10 برلمانيين حرَّاطين من أصل 151 منتخبا على مستوى هاتين الغرفتين، فيما استقر متوسط "وزيرين" من الحراطين في الحكومات الموريتانية المتعاقبة خلال الـ30 سنة الأخيرة.

وبحسب الميثاق، لم يحصل الحرَّاطون إلا على واحد من أصل 13 منصب والي، وما بين 1 إلى 2 رئيس بعثة دبلوماسية من أصل 35، وما بين 3 إلى 4 مدراء عامين لمؤسسات عمومية من أصل 140.

ماذا بعد؟

لا تزال العبودية وآثارها على "الحرَّاطين" تثير جدلا داخل المجتمع الموريتاني، وتتحدث تقارير حقوقية عن انتهاكات تطال الحقوق الأساسية للمنتمين إلى هذه الشريحة، محذرة من تأثير ذلك على التماسك الاجتماعي في هذا البلد ذي النسيج القبلي.

أقرت الحكومة في 3 أبريل الماضي قانونا جديدا لتجريم الرق، ليحل محل القانون القديم، كما خصصت خطبة موحدة في المساجد للتوعية بقوانين ومشاريع محاربة الرق، فهل تنجح هذه الخطوة في منع تحقق نبوءة مؤسس موريتانيا أم ستكون كسابقاتها؟.