صاحب القضية
كان من بالقاعة قد بلغ بهم التوتر والضجر مدى عظيما، ولكن المحامي البلـيغ كان الوحيد بالقاعة الذي لم يبدُ عليه التأثر بما حوله. كانت الصحافة تصفها بقضية المصير، كونها كانت أخطر قضية بالبلاد، وتمييزا لها عن باقي القضايا الكبرى، وبلغ عدد جلسات نظر القضية حتى هذا اليوم قرابة ألف وخمسمائة جلسة.
القاضي السمين ذو الصلعة اللافتة يجلس مستندا في ضجر على طاولة هيئة القضاة، متكئا برأسه فوق ساعديه المثنيين، أما المتهم فقد بدا عليه الثقة والثبات، وكأن الأمر لا يخيفه.
وصفت القضية بالغرابة الشديدة وأحيانا بالقضية المستحيلة أو الجنونية، لامتدادها الزمني البالغ، حتى أنه لم يعد هناك من يجزم متى بدأت وقائعها تحديدا، في حين أن ممثل النيابة في القضية كان قد شق طريقا مغايرا غير معتاد في عمل النيابة، فلم يكن يوجه أية اتهامات مباشرة للمتهم، ولم يبدُ على المتهم قلقه من خطورة الاتهامات.. وبدت العلاقة بينهما أقرب إلى التحاور الودي.
الحضور كانوا كثيرين للغاية، أعداد مهولة، تغدو وتروح عند كل موعد لجلسة، تثبت موقفها مع المتهم. كل جلسة تتوافد أعداد أخرى غير تلك التي حضرت الجلسات السابقة، جميعهم يريد أن يثبت موقفا أمام ذاته، ويبرئ نفسه من وخز ضميره، لتخليه عنه فى هذا الوقت الحسّاس، ثم يمضي لحال سبيله، فلا يزكي المتهم بعدها أبدا، حتى إذا ما قرر الذهاب لجلسة جديدة، شحذ همته، واستدعى ما مضى من مظالم متراكمة، وجعل الرجل قبلته.
المتهم على سنه الطاعن إلا أنه لم يفت الزمن في عضده، ولم يبد عليه الوهن، حتى أن خصومه كانوا يتهمونه بقدرته البالغة على إثارة القلاقل لو أخلي سبيله، لذلك راجت الخشية من منحه حريته، بينما البعض الآخر أجزم أنه لو أطلق لحاله لانفلت الزمام وطغت المظالم، لكنهم لم يبدوا معارضة لإخلاء سبيله، في حين أن الغالبية كانت تأتنس إليه واستقر رضاؤها على هذا الوضع، لا تنقطع صلتهم به من ناحية فلا إثم عليهم ولا تثريب، ولا هو حر طليق فينالهم منه ما يشاع عنه، لذلك أرسلوا إليه أبناءهم يساندونه في المحاكمات المتتالية فوجا بعد فوج، من دون أن يعلنوا عن حقيقة موقفهم، وكل من كان يذهب إلى مقر المحاكمة، يفاجأ كغيره بأناس يعرفهم سبقوه إلى هناك، دون أن يسفروا عن حقيقة وجهتهم، أو عن مدى إيمانهم ببراءة المتهم من عدمها، خشية من سوء العواقب، فالخياران سيان في مخاطرهما، فعمّ الصمت ما تلا التحيات، وحلت ابتسامات المجاملة محل صريح الآراء.
لكن لم يخفَ على أحد أن بطل القضية الفعلي كان هو المحامي وليس المتهم، وعلى الرغم من إنكاره المتكرر لذاته، إلا أن ابتسامته الحائرة بين الخجل والرغبة، فضحت انتشاءه بالمديح، وقد ذاع صيته بحُسن الشيم والخِصال إضافة إلى مكر ودهاء محببين للنفس، فراجت بضاعته وازدهرت سوقه.
سارت القضية مهيبة حينا، رتيبة أحيانا، إلى أن كان اليوم الذي تغيّر فيه مسار القضية بشكل لافت، بدأ الأمر بالإعلان عن انعقاد جلسة حاسمة، نودي بالإعلان عنها في أطراف البلاد، وعبر المذياع الرسمي والصحف وقنوات التلفاز: لأن يجتمع الناس للاطلاع برأي العين على الحكم النهائي على قضية استهلكت أعمارهم وأعمار سالفيهم، كي يصبح الحكم عنوان البراءة أو دليل الاتهام القاطع.
احتشدت الجماهير داخل المحكمة وخارجها بأعداد غفيرة عصية على الحصر، وأتى الحُجّاب والحُراس في صفوف متعاقبة يحملون ملفات القضية تترقبهم الأعين، حتى حدثت حركة مباغتة لم يجزم أحد بمبعثها ولا بدايتها، ارتبكت فيه الصفوف وسقط فيه الحراس فوق بعضهم، فتناثرت أضابيرها، وافترشت الأوراق المكان، واختلطت مئات الآلاف من الأوراق والملفات ومستندات الإثبات، تحمل الدفوع والتأجيلات وشهادات شهود الإثبات والنفي، وأحراز القضية، والقرارات الإدارية ومنطوقات التأجيل وطلبات الاستدعاء، وأسماء القضاة المتتاليين، واختلط كل شيء.
أُجلت الجلسة، وعجزت الجهات الرسمية عن إعادة ترتيب الأوراق والملفات ثانية كما كانت، وتغير مسار القضية وأصبح لب القضية هو كيف يعاد ترتيب أوراق القضية بشكل دقيق، بما يحفظ للقضية مصداقيتها، خاصة أن القضية قد مرّ بوقائعها أجيال عديدة ممن غيب أفرادها الموت, وأجيال أخرى لا تتحمل ذاكرتها القصيرة، عبء مثل هذا النوع من القضايا التاريخية بتفاصيلها الأسطورية.
وكشفت التحقيقات أن الأوراق جميعها لا تحمل أرقاما تسلسلية، وأن الاعتماد الأبرز كان على حنكة المحامي وضمير القاضي، وثقة المتهم فى نصر القدر.
فاجأ المحامي الجميع بأنه يمتلك الحل لإعادة ترتيب أوراق القضية، بل إنه بالفعل يحفظ ترتيب أوراقها ووقائعها منذ بدأت جلساتها، عن ظهر قلب، وأنه مستعد لإثبات هذا لمن يشاء بالحجة والبرهان، واشترط أن يساعد الهيئة القضائية في عملها، شريطة ألا توضع أرقام التسلسل على صفحاتها، وأن يبقى هذا السر يختص به وحده.. وألا يسعى أحد من أي جهة كانت إلى اضطراره للقيام بهذا العمل، أو محاولة النقل عنه.. فهذا سرّه الخاص.
وتقديرا لدوره استحدثت له الهيئة القضائية بموافقة وزير العدالة، زيا مميزا عن باقي المحامين، فارتدى "الروب" الأحمر بدلا من الأسود، وتوَّج رأسه بقبعة مربعة الجوانب أعلى مقدمتها فص من اللازورد.
اشتهر المتهم بأنه يرفض نهائيا الحديث إلا مع محاميه، ورغم أنه توالى على قضيته محامون عدة، إلا أنه قد تميّز باختياره الدقيق لهم، وقد تردد أن للرجل مساعدين مجهولين ينتقون له محاميه، كلما مات أحدهم أتوا له ببديل، أكثر دهاءً من سابقه.
في مرة نادرة شوهد المتهم يطمئن الحضور، فصرّح: أن طول بقائه فى قفص الاتهام، أو مسجونا على ذمة القضية، هو أمر لا يسوؤه على الإطلاق، فطالما هو بعافية طيبة، فكل شيء إذا على ما يرام، وأن بقاءه متصدرا للمشهد أمر يرضيه على كل حال، فقد منحه طول زمن نظر القضية ثباتا وقوة أمام النوازل والملمات، ووجودكم هنا الآن خير شاهد على صحة ما أقول.
ذاع صيت المحامي وتهافتت عليه الصحف باعتباره الوحيد الذي يمتلك كل جوانب القضية، وأفسح له القاضي المجال للحديث دون مقاطعة، وصال وجال بأحاديث مفوهة جلسة بعد أخرى، ولم تتدخل النيابة إلا قليلا، وشهرا بعد شهر، لم يُعد يُذكر من أمر المتهم إلا القليل، وبدأ يغيب عن حضور الجلسات، وتناثرت بشأنه الشائعات والتنبؤات، وتمحورت القضية حول شخص المحامي البليغ، وكيف سيستطيع أن يعيد القضية إلى مسارها الصحيح.
تفتت القضية وتاريخها، ونُسي أمر المتهم وصموده، وحافظت الجموع على تدافعها المتوارث في حضورالجلسات، لمساندة القضية، وتوالت على جلساتها وجوه ناشئة لا تدري من أصل القضية شيئًا، واستحال مضمونها تماما، وتبدّل عنوانها واشتهرت بين الجماهير باسم قضية المحامي.