التوقيت الجمعة، 22 نوفمبر 2024
التوقيت 09:16 ص , بتوقيت القاهرة

لكم منابركم ولنا عقولنا

المِنبر هو مكان يتحدث منه الخطيب للمصلين في خُطبة الجمعة، يقع مكانه التقليدي على يمين المحراب، وبخلاف أهميته في الشكل الجمالي للمساجد وكونه ذا ارتباط عمومًا بفنون الزخرفة الإسلامية، فإنه على مدى التاريخ أساس لخلافات سياسية عديدة وصاحب دور سياسي  مهم، والأهم من ذلك هو  حقيقة النتائج الثقافية والتعليمية التي يصنعها.

يقولون إن النبي اتخذ المنبر بعد استخدام جِذع من الخشب، ولهذا الموضوع  قصة يقصها حديث (حنين الجذع)، ومنبر النبي في المسجد النبوي كان ثلاث درجات وكان مصنوعًا من الخشب، بالطبع كان الهدف من المِنبر أن يرى المصلون الخطيب؛ لهذا  أصبح من الطبيعي أن تزيد درجات المنبر باتساع المسجد وزيادة المصلين.

ينقل الشيعة عن الحسين بن علي كبداية مبكرة للمطالبة بما يعتبرونه (حق آل البيت) حديثا فيه: أنه قال لعمر بن الخطاب (انزل عن منبر أبي)، رغم أنه كان صغيرًا في السن، والمعنى يحتمل أنه يقصد بأبي النبي نفسه أو الإمام علي، ويتحول الموضوع إلى جزء من الملحمة الكربلائية التي تُجسد مواجهة  الحسين بن علي لعمر بن الخطاب،  وفي الواقع فالسنة أيضًا ينقلون نفس الحديث بدلالات أخرى، ولكن ما يعنينا  أن للمنبر دائمًا استخداما سياسيا مهما سيظهر لدى البعض مرة أخرى في أهمية مخالفة معاوية بن أبي سفيان، حيث زادت درجات المنبر في عهده إلى ستة، ومرة أخرى عندما يطالب البعض بالرجوع إلى السنة واتخاذ منبر خشبي من ثلاث درجات، علمًا بأن المنبر الحالي للمسجد النبوي هو من المرمر ومصنوع بهيئة جمالية كما أن درجاته اثتنا عشرة درجة.

كل هذه الخلافات حول المنبر وشكله ومن الأحق به وعلى أي درجة يقف الخطيب، وهل وقف أبوبكر وعمر على ذات الدرجة التي وقف عليها الرسول أم نزلا درجة أو درجتين على الترتيب، وهل يجوز زيادة عدد درجاته أم أن هذه بدعة؟ وهل يجب أن يكون من الخشب.. إلخ، هي موضوعات يعتبرها البعض مهمة ولكنها توضح ببساطة الأهمية السياسية للمنبر، فهو مرتبط بالإمام والذي في معظم نظريات الإسلام السياسي السنية والشيعية مصدر السلطة الحقيقي سواء باعتباره مفوضا من أهل الحل والعقد ببيعة لا تحل أو باعتباره نائبًا عن الإمام المعصوم الغائب.

لماذا إذن لا تصنع المنابر أي تغيير فكري وثقافي؟

لأن المنابر لا تصنع حالة فكرية، الفكر يصنعه النقاش والحوار والأخذ والرد، والإقناع، وهذا كله  ليس من الصفات المرتبطة بالمنبر، فحديث المنبر حديث يتحرك في اتجاه واحد من الخطيب إلى الناس، يقول فيه ما يشاء متمتعًا بحصانة حتى من التعقيب على كلامه أو الرد عليه أو إنكاره، بل أن الحاضرين يتوجب عليهم ألا ينبسوا ببنت شفة استنادًا للحديث الذي صححه البخاري ومسلم (إذا قلت لصاحبك والإمام يخطب: انصت. فقد لغوت)، إذن فباستثناء بعض الأسباب القهرية فأنت مطالب بالصمت الكامل، بينما يتحدث الخطيب كيفما شاء، مهما أورد من كلام لا علاقة له بالعلم أو الطب ومهما أخطأ والاستثناء فقط هو في تصحيح الآيات.

المنبر يؤسس لحالة نفسية من الخضوع الكامل، فأنت تستمع لشخص يخطب واقفًا ويعلو الأرض بدرجات، وأنت جالس على الأرض، يتكلم وأنت صامت بلا أي حق في الرد، يحدث الآلاف بينما ردك يجب أن يتوجه له وحده بعد الصلاة، المنبر يصنع إذن حالة القداسة تلك التي تجعلك مُجبرًا على التعامل  باحترام مع كلام الخطيب أيًا كان، فتعتاد على فكرة تقديسه وتقديس ما يقول.

المنبر إذن هو أفضل وسيلة لبث أية أفكار دون حسيب أو رقيب متمتعًا بهالة التقديس ومستندًا لضرورة صلاة الناس للجمعة وإلا طبع الله على قلوبهم أو كُتبوا من المنافقين.

قد يقول البعض ولكن الخُطبة ليست كل شيء، فهناك حلقات الدرس وهي مفتوحة  للأخذ والرد والنقاش ولكن هذا وإن بدا صحيحًا ظاهريًا فهو ليس كذلك فحلقات الدرس هي أيضًا ما يأخذه الطلبة عن (شيخهم)، وهي أيضًا وإنْ تضمّنت أن تسأل فإنها تجعلك دومًا تسأل من موقع التابع لا من موقع الند كما أن الأهم من هذا كله أن حلقة الدرس حتى لو تجنبت هذا كله فهي  لا تتضمن اختلاطًا بالمجتمع الواسع بل بمجموعة قليلة العدد.

لماذا إذن يتصارعون على الخطابة ولا يكتفون بالدرس أو غيره ؟ لماذا تعد الإجازة أمرًا مهمًا؟ لماذا يقاتل السلفيون والإخوان للحصول على حق الخُطبة في مساجد معينة؟ ولماذا تساومهم الدولة على هذا المسجد أو ذاك؟ لماذا جاء القرضاوي ليخطب في ميدان التحرير في 18 فبراير 2011 ؟ لقد حصلت على الإجابة الصحيحة لأنهم يمتلكون بالمنبر سلطة لا توازيها سلطة.

مصطلح الخطاب الديني هو تعبير يعكس فلسفة المنبر، فهو (خطاب) يتضمّن متحدث ومستمع، المتحدث هو رجل الدين، والمستمع هو المواطن، قد يقول البعض إن هذا إجحاف وإن الخُطبة ليست كل شيء، ففي القرن الأخير مثلاً ظهر خطاب آخر هو البرامج الإذاعية والتلفزيونية والفضائية والتسجيلات الصوتية والمرئية، وفي الواقع فإن الأمر لا يختلف كثيرًا فالتسجيلات بالطبع في اتجاه واحد وكذلك البرامج المسجلة، بينما برامج البث المباشر فهي تقوم على نظرية (اسأل وفلان يجيب) لتواصل ترسيخ حالة الخضوع والتقديس.

وإذا أضفنا  للخطاب الديني الوسيلة القديمة أيضًا وهي الكتب، فهي بالطبع لا تصنع تواصلاً مباشرًا، كما أن قارئيها محدودون في ظل مجتمع يقوم على الحكاوي والثقافة السمعية، كما أن الكتب ليست عندهم بذات قيمة، ف(العلم) يؤخذ (مشافهة عن أهله) كما أن (من كان شيخه كتابه فخطؤه أكثر من صوابه)،  الهدف أن تظل تحت السيطرة.

لاحظ هذه الحلقة المفرغة والدائرة المغلقة واللعبة الجميلة، إذا أردت أن تصلي الجمعة فإمّا  أن تدخل مسجدًا أهليًا تخطب فيه جماعة معينة لبث أفكارها أو ستذهب إلى مسجد تابع للأوقاف ولا فارق، إذ إنه إذا لم يجيزك الأزهر فأنت لا تستطيع الخطبة في أي جامع، الأزهر قد يجيز السلفيين أو الإخوان أو المتردية او النطيحة أو ما أكل السبع، لكنه لا يجيز أن يخطب أي شخص يملك أفكارًا إصلاحية في الجامع.

فإذا تركت لهم هذه المنابر وما أكثرها وأوسعها تأثيرًا، وذهبت لتقدم أفكارك في برنامج  إذاعي أو تلفزيوني كبرامجهم فإنهم سيمنعون بث البرنامج وسيرفعون ضدك القضايا، وهو أيضًا مالم يفعلوه أصلاً ضد آلاف الخطباء والمقدمين من الإخوان والسلفيين. إذ إن قداستهم يجب أن تظل مصانة.

يتبقى إذًا من خطابهم الديني الكتب وتلك مرة أخرى محكومة بعدد قليل من القارئين، ولكن العجيب أنهم أيضًا سيصادرون كتبك أو يحاكمونك بتهمة ازدراء الأديان أو سيخرجون في حشود طالبين رأسك أو مستخرجين فتوى بفتلك.

ماذا تستنتج من هذا كله؟ 

أن تجديد الخطاب الديني ما هو إلا تجديد لحالة المنبر ولسيطرة الخطيب النفسية ولاستغفال الناس وإخضاعهم .

تجديد الخطاب هو تجديد للمنبر إذن، هو نفس التغير الظاهري، هو تحويله من منبر خشبي إلى منبر من المرمر، هو زيادة في عدد الدرجات التي يعلو بها الخطيب عن الناس، هو خلاف حول ما قال الحسين ومعنى قوله مرة أخرى، هو إغراقك  في التفاهات من جديد، هو أن يجيئوك برجل دين من نفس المجموعة يجيد الابتسام بلا سبب  أو بخريج جامعة بريطانية أو أمريكية ليضفي على نفس الهراء شكلاً حداثيًا بينما يلعن الحداثة.

أمّا أن يُغيروا المنبر وثقافة المنبر والاستعلاء من فوق المنبر وخضوع من هم تحت المنبر، والكلام الذي يُقال من فوق المنبر فهذا كله محال.

المنبر ليس الحل بل هو المشكلة.
لكم منابركم ولنا عقولنا.

 

  للتواصل مع الكاتب.