التوقيت الثلاثاء، 05 نوفمبر 2024
التوقيت 09:49 ص , بتوقيت القاهرة

المجتمع المفضوح وحلفاؤه

في مجتمعٍ يعلي من قيمة "الستر" فوق أي فضيلة أخرى، يعدُ التهديدُ بالفضيحة أفضل وسيلة للإقناع. فالخوف من الفضيحة يجعل المرء أكثر مرونة وقدرة على رؤية ما تحمله آراء خصومه من وجاهة. كذلك إذا توفرت لكل الخصوم القدرة على فضح بعضهم البعض، فإن ذلك يمنح المجتمع نوعًا من السلام القائم على توازن الردع. فالقدرة على التشويه الشامل والمتبادل للسمعة يجبر الجميع على توخي الحذر قبل الخوض في سيرة الغير خوفًا من الوقوع تحت سكين الألسنة. والاتفاق على أن لا أحد يخلو من نقيصة هو ما يضمن لكل طرفٍ أن يحيا في أكذوبته آمنا.


قد يكون ما سبق حقيقيًا في المجتمعات الصغيرة المغلقة على نسق متفق عليه من القيم. فهذه المجتمعات ترسم لأفرادها الحدود من البداية، ويصبح أي تطور أو نجاح استثنائي مرهونًا بالتوافق مع النسق السائد. وحتى ولو حدث أن قرر أحد أفراد هذا المجتمع ــ مدفوعًا بتهوره أو طموحه أو أي سبب آخر ــ التمرد على ما هو مرسومٌ له، فإن درجةً من درجات الفضيحة تتوافق مع حجم تمرده تكون دومًا في انتظاره لتحل المشكلة وتعيد التوازن.


لكن عندما تُجبرُ المجتمعات الصغيرة المغلقة على الاندماج فيما بينها لتكوين مجتمع كبير، دون أن تُجبر على التخلي عن أنساقها القيمة، فإن الفضيحة تتعدى دورها كسلاح ردع إلى سلاح هجومي ودفاعي في آن واحد. المجتمع الكبير لا يمكن أن يحكمه نسق قيمي واحد. لا يمكن أن يسلك أفراده ذات السلوك ولا يمكن أن ينظروا للعالم ذات النظرة. لا يمكن كذلك لأفراد هذا المجتمع أن يتفقوا (كأبناء المجتمع المغلق) على سقف للطموح أو آلية لتحقيق النجاح. البعض ينجح، والبعض الآخر لا يحالفه الحظ. المجتمع الكبير يملك قدرةً على منح الفرص في كرم وطيبة، لا يساويها غير قدرته على سلبها في قسوة مفرطة. ونتاجًا لهذه القسوة البالغة والكرم الزائد، يجد الأفراد أنفسهم مضطرين إلى التكتل في مجتمعات مغلقة تتشارك في ذات الأنساق القيمية. قد لا تعيش كل جماعة في "جيتو" أو حي لا يقطنه غيرها، لكنها تحيا في جيتو أخلاقي وفكري منفصل عن الجماعات الأخرى التي تناصبها العداء والتنافس. بل أن ذات الفرد قد يجد نفسه مدفوعًا إلى الانضمام لأكثر من جماعة وفقاً للأدوار المجتمعية المختلفة التي يحتم عليه المجتمع الكبير لعبها. وعلى كل جماعة أن تحافظ على مكتسباتها وتتحين الفرصة الملائمة للانقضاض على مكتسبات الآخرين.


هنا يأتي فضح الآخر ووصمه بالعار كالأسوار العالية المحيطة بالجيتو النفسي حماية لقاطنيه من التأثر بما تحمله الجماعات الأخرى من قيم وما يشكلونه من تهديدات. أي نقاش هادئ يحل محل الفضح يؤدي إلى تآكل الأسوار وتعرض من بداخلها للغزو. على الأثرياء أن يفضحوا قيم الفقراء والعكس. تفضح النساء طبائع الرجال الخشنة، ويفضح الرجال بدورهم طباعهن اللينة. يفضح سكان المدن سكان القرى، وينتقم منهم القرويون بذات الآلية. حتى عندما يذهب ريفي يحيا بالمدينة إلى بلدته لا يجد غضاضة في صب اللعنات على قيم المدينة وأهلها بذات الحماسة التي يفضح بها الريف وسط رفاقه في المدينة فور عودته. يسخر سكان الأحياء الراقية من سكان الأحياء الشعبية ويفضحون تقليدهم لهم. ولا يعدم "الشعبيون" موهبة في فضح أبناء الأحياء الراقية بكونهم نساء من ملبنٍ ورجال من فستق. أما عن فضح أبناء الأديان لبعضهم البعض، ففي ذلك كتبت الأسفار التي ينوء بحملها أكثر الحمير صحةً وصبرًا.


ومن تعاملات الأفراد ينتقل الفضحُ إلى السياسة والصحافة والإعلام ومواقع التواصل بل والفكر ذاته. فضح الآخر يصبح أكثر وجاهة من تفنيد رأيه. وتبادل الآراء يصبح مع الانتشار المتشظي للوسائل نقاشًا فضائحيًا. الكل يحيا في عالم يمنحه الإمكانيات اللازمة لكشف أسرار الآخر، مما يجعل شخصية كبير البصاصين زكريا بن الراضي في رواية الزيني بركات أشبه بخفير نظامي. ولكي تكون الفضيحة أكثر فعاليةً في إشعارالذات بالتميز ووصم الآخر بالرداءة، يتعين البحث عن كل ما هو شاذ وغريب ومقزز وحقير وإبرازه.


وتحل مفردة "الفضح" محل "الكشف" في مانشيات الصحف وعناوين المقاطع المرئية وهاشتاجات المواقع الاجتماعية، لتعلن عن مادة تستحق المتابعة.


مع الوقت والاعتياد يعتاد الناس الفضائح، بل ويبحثون عنها بحثهم عن المعرفة. يتراجع دور المواقف القائمة على الاقتناع ليحل محلها المواقف المبنية على الاعتبارات الشخصية. ومع تضخم الاعتبارات الشخصية لدى كل جماعة مغلقة يتقلص دور الفرد (أساس المجتمع الكبير) إلى كونه عضوا  لا أكثر في جماعة متحالفة أو معادية. ومهما حاول هذا الفرد أن يبدو (أو كان بالفعل) مختلفًا عن "الجيتو" الذي وضعه فيه آخرون لن ينجو من الفضيحة. فالسيئة تعم والحسنة لا تخص أحدًا. عليك أن تؤكد هويتك بإعلان انضمامك بوضوح لأي من الجماعات المغلقة المتاحة وإلا سيفضحك الآخرون بمعرفتهم عند إبدائك أي رأي أو تصرف يستشعرون معه الخطر على أسوار الجيتو. عدم الإنضمام لجيتو لن يحميك من الفضح، بل ربما يجعلك مضغةً في أفواه الجميع بحجة أنك غير متسق.


هذا المجتمع المنقسم المفضوح دوماً لا يجد الفرصة لالتقاط أنفاسه والتساؤل عن معنى هذه المعركة. فعلى رأس كل جماعة مغلقة تقف مجموعة من المنتفعين لتبقى نار العداء مستعرة. هذه المجموعات الصغيرة التي تقود الجماعات المغلقة، وعلى عكس ما يبدو، تتحالف دوماً ليظل الناس داخل الأسوار، ويظلون هم على القمة.


تنويه:


في نفس العام الذي انتهت فيه الحربُ العالمية الثانية (1945) أصدر الفيلسوف البريطاني نمسوّي الأصل كارل بوبر كتابه "المجتمع المفتوح وأعداؤه". وفي هذا الكتاب، الذي تحول مع مرور الزمن إلى أحد كلاسيكيات الفلسفة السياسية الغربية، حمل بوبر حملة ضارية على الفلسفات الشمولية التي تروج لفكرة أن التاريخ يخضع في تطوره لقوانين صارمة، وأن النظم السياسية عليها بالتالي أن تستجيب لتلك القوانين التي لا وجود لها (من وجهة نظره) غير في أذهان الفلاسفة الكبار من أمثال أفلاطون وهيجل وماركس. وقد نبّه بوبر في كتابه الذي واكب سقوط النظام النازي الشمولي وصعود نظام شمولي آخر (الاتحاد السوفيتي) إلى أن المجتمعات "الديمقراطية" لا تخلو هي أيضاً من نزعة شمولية كامنة، وأن عليها أن تنفتح على كل التيارات الفكرية والسياسية إن هي إرادت التمسك بديمقراطيتها وحريتها. لكن ما منح عمل بوبر المشار إليه مكانته المركزية في الفكر الغربي المعاصر لم يكن فقط تحقق توقعاته بسقوط كل الأنظمة الشمولية، ولكن إعلائه من شأن الحرية الفردية حتى وإن "بدت" متعارضةً مع قيم المجتمع الديمقراطي القائم على المؤسسات؛ وهو المجتمع الذي عده بوبر وغيره من كبار الفلاسفة الغربيين أفضل المجتمعات الممكنة.


يستُرك يا كارل يا بن ريموند بوبر..