التوقيت الجمعة، 22 نوفمبر 2024
التوقيت 10:23 ص , بتوقيت القاهرة

عفوًا.. الخطابُ الدينيّ ليس خطابًا رئاسيًا

يُحسبُ للرئيس السيسي صراحته واستخدامه للغة واضحة في تناوله مسؤولية بعض أوجه الخطاب الديني عن إذكاء التطرف والإرهاب. كذلك يُحسب له إطلاقُ الدعوة إلى تبني ضرورة إنتاج خطاب ديني جديد لا يعادي روح العصر، ولا يحثُ على كراهية المختلفين واستخدام العنف في مواجهتهم. أيضًا يُحسب للرئيس إصراره على التأكيد دومًا على نهاية عصر "المواءمات على حساب الوطن" دينية كانت أم سياسية؛ ولعل في زيارته للكنيسة المصرية في عيد الميلاد الماضي (والتي أعقبت مقتل مصريين مسيحيين في ليبيا على يد تنظيم داعش) ما يضيف لتصريحاته في هذا الصدد مصداقيةً لا تخفى.


لكن.. ورغم أن الرئيس لم يحدد في لقاءاته وأحاديثه التي تناولت هذا الشأن ماهية المقصود بالخطاب الديني، إلا أننا نستطيع أن نلمح لدى الرئيس قناعةً واضحةً تعتبر المؤسسات الدينية الرسمية مسؤولة وحدها عن تنقيح الخطاب الديني وربما العمل على إنتاج خطاب ديني مغاير لما هو سائد. ولعل في كلمته الأخيرة أمام طلاب الكلية الحربية ما يؤكد هذه القناعة. فالرئيس الذي بدا مستاءً من النقاشات الدائرة وجد أن عليه توضيح أن دعوته إلى تجديد الخطاب الديني كانت قاصرة على "العلماء الأفاضل" من رجال المؤسسات الدينية. كما لم يفت الرئيس أن يؤكد أن هذا التجديد يعد مهمة ملحة وضرورية لم يسبق لأحد أن تصدى لها.


نستطيع أن نتفهم مخاوف الرئيس من أن تؤدي النقاشات حول الدين إلى انقسام فكري قد يستغله البعض عن سوء نية مستهدفًا السلم الاجتماعي. لكن ما لا يمكن تفهمه هو اعتبار المؤسسات الدينية الرسمية هي وحدها المنوطُ بها تناول الخطاب الديني تنقيحًا أوتجديدًا أو تعديلاً. فالخطاب الديني في بلدنا يتجاوز كونه خطابًا متعلقًا بفقه العقيدة والعبادات، إلى كونه مكونًا رئيسيًا من مكونات الثقافة السائدة التي تتجلى في القناعات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية كذلك. الخطاب الديني أيضًا (وعلى الرغم من استحالة الاتفاق على تعريف شامل له)، ليس نتاجًا لخطاب المؤسسة الدينية الرسمية وحدها. الخطاب الديني بمفهومه الأوسع مزيج مما تتبناه هذه المؤسسة من آراء مختلفة ومتعددة، مع ما يتعلمه الطلبة في مراحل الدراسة المختلفة، وما يردده الشيوخ في المساجد والزوايا والإعلام، وأيضًا ما يتبناه الشعب من موروثات قديمة يختلط فيها الدين بالأسطورة، ويتفاعل في رحابها تعاليم الطرق الصوفية مع وهج الملاحم الشعبية وأبطالها.


وإن كنا اليوم نسعى صادقين إلى تبني خطاب معرفي وايماني جديد يدعم توجهاتنا الجديدة نحو مجتمع أكثر انفتاحًا ورُقيًا، فقد يكون من الصالح أن نوسع نظرتنا إلى ما نسميه الخطاب الديني لتشمل تحليله كمنتج معرفي أنتجه مجتمعات حية عبر عصور تاريخية متلاحقة، وليس مجرد منظومة من الأحكام الفقهية. هذه المهمة لا يمكن لمؤسسة واحدة ــ مهما بلغ علمها ــ أن تقوم به. يستطيع رجال الدين ــ إن هم أرادوا ــ أن ينقحوا ما شاء لهم من النصوص التي يدرّسونها لطلابهم، لكن ذلك لا يمنع حق رجال التاريخ والاجتماع والأدب في دراسة هذه النصوص من زواياهم المعرفية. فكما تكوّنت هذه النصوص كآراء لفقهاء ومفكرين دينيين، جاءت انعكاسًا لظروف وعوامل تاريخية ومجتمعية تفاعلت معها عقول هؤلاء المفكرين القدماء وتبادلت معها التأثير والتأثر. الخطاب الديني في بعده التراثي ليس بناءً فكريًا خارجًا عن حدود الزمان والمكان، بل هو ــ كأي منتج معرفي آخر ــ نتاجٌ لتلاقح معطيات الزمان والمكان مع عقول البشر. ولعل في اللحظة الراهنة وما تشهده من تغيرات في فهمنا للدين والتدين ما يدل على ذلك.


اعتبار المؤسسة الدينية مسؤولة وحدها عن هذا المنتج المعرفي لا يؤدي إلى ضبط النقاش حوله، بقدر ما قد يؤدي إلى تحويل هذا التراث إلى بنية مغلقة يقوم على العناية بها طبقة خاصة من حاملي "علم" خاص. ولعل في هذا ما يتناقض مع اعتبار الإسلام دينًا لا يعرف الكهنوت ولا يمنح رجال الدين سلطة على عقول وقلوب المؤمنين. بل أن هذه المؤسسة الدينية لا تقتصر علومها على الدراسات الفقهية والشرعية فحسب، لكن يمتد ما تدرسه من معارف إلى الآداب والتاريخ والفلسفة وعلوم السير والفقه المقارن والتشريع. وهذه العلوم تتشارك في دراستها معاهد أخرى ككليات الآداب والحقوق ودار العلوم. 


نقطة أخرى تستوقفنا في كلمة الرئيس وهي المتعلقة بعدم تصدي أحد من قبل لتجديد الخطاب الديني. قد يكون في قول الرئيس بعض التعميم غير المقصود، أو لعله كان يتحدث عن اللحظة الراهنة التي تواجه مصر فيها إرهابًا يؤصل لجرائمه في التراث الديني. لكن الحقيقة أن كثيرين قد تصدوا لهذه المهمة بكل إخلاص عبر تاريخ مصر الحديث الذي يمتد من عصر محمد على وحتى اللحظة الراهنة. وربما لم تأت قدرة مصر على التماسك في وجه التيارات الرجعية مؤخرًا إلا بسبب ترسخ جهود هؤلاء المجددين (الذين قد لا يعرف الناس أسماءهم) في وعي المصريين. هذا الوعي الذي انتفض في لحظة بلا تردد ليعلن انحيازه ضد الحكم الديني دون أن يجد في ذلك تعارضًا مع ما يعتنقه من عقيدة. بل لعل نظرة السيد الرئيس نفسه إلى الإيمان العميق بالدين الذي لا يتناقض مع الانفتاح على العالم ومواكبة العصر ليست إلا نتاجًا لجهود هؤلاء المجددين عبر الزمن.


ألم يُجدد الطهطاوي الخطاب الديني في كتبه التي دعا فيها إلى الانفتاح على العصر والأخذ بأساليب الحداثة وضرورة التعرف على أفكار الغرب واعتباره مرآة لقيمنا وأخلاقنا؟ ألم يجدد الإمام محمد عبده الخطاب الديني عندما دعا إلى تبني الأساليب الجديدة في تفسير النصوص ومنح الواقع أولوية على الماضي؟ ألم يجدد أحمد أمين نظرتنا لتاريخ الإسلام كله في عمله الرائد الموسوعي "يوم الإسلام" بأجزائه المتعددة؟ ألم يجدد عباس العقاد الخطاب الديني بإعلائه لقيمة الفرد الحر في مواجهة ما يُفرض عليه من ظروف في عبقرياته؟ ألم يجدد طه حسين في "الفتنة الكبرى" و"على هامش السيرة" وغيرها من كتب نظرة عصره إلى التاريخ كأحداث تنتج من تفاعل البشر مع واقعهم السياسي والاجتماعي؟ ألم يجدد عبدالرحمن الشرقاوي الخطاب الديني في "محمد رسول الحرية" وفي كتبه عن الحسين وأئمة الفقه التسعة وغيرها بتنقيبه عن أرقى القيم العصرية في تراثنا القديم؟ ألم يناقش أديب كيحيى حقي مثلاً في "قنديل أم هاشم" ذلك الجزء من الخطاب الديني القائم على الوهم والخرافة سعيًا لتجديده ليقوم على العلم والأخذ بالأسباب مع مراعاة الموروث؟ ألم يجدد أديب آخر كنجيب محفوظ في "الحرافيش" و"أولاد حارتنا" الخطاب الديني، داعيًا إلى إعلاء قيم التعايش القائم على التسامح مقابل قيم الانغلاق القائم على غطرسة القوة؟ ألم تتجدد الفلسفة الإسلامية على يد كوكبة من أعظم المفكرين تمتد كسلسلة ذهبية نذكر من حلقاتها أمين الخولي وعثمان أمين وعبدالهادي أبو ريدة وسامي النشار ونصر حامد أبوزيد وحسن حنفي وعلي مبروك؟ ألم يسهم مفكرون من ذوي النزعة العلمية كسلامة موسى وزكي نجيب محمود وفؤاد زكريا وفرج فودة في تجديد الخطاب الديني بإصلاحهم لذات البين بين المصريين والعلم الحديث؟ ألا يُعد رجالٌ لازال الأزهر يتباهى بأسمائهم كمحمود شلتوت وعبدالحليم محمود ومحمد عبدالله دراز ومحمد أبوزهرة من المجددين؟ ألا يعد سعدالدين الهلالي اليوم ومن قبله جمال البنا من الساعين لتجديد الفقه؟ 


هل كان كل هؤلاء الرجال ومئات بل وآلاف غيرهم من الذين لا يتسع المقام لذكرهم وآخرين يجهلهم بالضرورة كاتب السطور لمحدودية اطلاعه، من "العلماء الأفاضل" المنتمين للمؤسسات الدينية؟ هل كتبوا ما كتبوا وقالوا ما قالوا بمبادرة من باشا أو خديو أو ملك أو رئيس؟ هل كانوا جميعًا يسعون لتجديد الخطاب الديني بمعناه الفقهي والشرعي؟ بالطبع لا. لكن الخطاب الديني في ثقافة كثقافتنا تضع الدين في أعلى منزلة (على الأقل رسمياً) لابد أنه تفاعل مع أعمال هؤلاء سلباً وإيجابًا. هذا التفاعل هو ما يمنح الخطاب الديني حيويته وقدرته على تجديد نفسه من الداخل. هذا التفاعل هو ما يمنح الخطاب الديني موضعه الإيجابي في قلب الأزمة، لا فوقها من باب الاستعلاء، ولا على هامشها من باب الشعور بالضعف وفقدان الثقة. هل ينكر المنتمون للمؤسسات الدينية استفادتهم من المناهج البحثية التي طرحها باحثون ومفكرون من خارج المؤسسة، بل وربما من خارج الوطن واللغة والملة؟ ألم تترجم المؤسسة الدينية أو ما يرتبط بها من هيئات كتب المستشرقين وتناقش ما في بعضها من آراء غير مسبوقة قابلةً لبعضها ومفندةً لبعضها الآخر؟


الخطاب الديني جزء من الخطاب المعرفي الذي يتشارك كل أبناء هذا الوطن في ملكيته كما يتشاركون في ملكية هذا الوطن. هذا الخطاب لا يخضع في إنشائه وتطوره لما قد يخضع له الخطاب السياسي من مواءمات ضرورية. كما أن الخطاب المعرفي ليس كالخطاب السياسي يحدد مسؤوليات القائمين عليه ويرسم لهم حدود سلطاتهم، وليس كالخطاب السياسي يُنتظر منه أن يتناول قضايا محددة ويعرضها للرأي العام بيانًا لتوجه السياسي أو خطته. الخطاب المعرفي الذي يشكل الخطاب الديني أحد روافده الرئيسية هو نتاج مبادرات فردية وخبرات عقول وتراكم تجارب تستلهم التاريخ في محاولة لإعادة فهمه غرضًا لفهم أفضل للواقع. قد يكون التغيير من أهم أهدافه الأصيلة، لكن المعرفة هي غايته ووسيلته.


لذلك فإن مناقشة الخطاب الديني أو تنقيحه أو إعادة تفسيره أو إنتاج خطاب معرفي جديد يوازيه أو يتقاطع معه هو حق أصيل لكل صاحب فكر وعلم ورأي في هذا الوطن، سواءً كان منتميًا لمؤسسة علمية دينية أو مدنية أو غير منتمٍ. أزمة الخطاب الديني والفكري عامةً ليست معركة جانبية يمكننا أن نؤجلها، بل هي أهم معركة على مصر بكل أبنائها أن تخوضها بشجاعة. قد يضل بعضنا الطريق أحياناً، وقد يقع بعضنا الآخر في فخاخ الغرور والأنانية وحب الذات أحيانًا، قد يدفع الخوف بعضنا للتطرف، وقد تدفع الثقة المفرطة بعضنا الآخر للتساهل، لكننا في النهاية، وبسماحنا لكل الآراء  أن تزدهر ــ مهما كانت غرابة بعضها أو شذوذه ــ سنصل إلى الصيغة التي سبقتنا شعوب أخرى في الوصول لها؛ العقل يحاكم الأفكار والقانون يحاكم الأفعال. ربما يخشى بعض الناس على دينهم من المناقشات والأفكار، لكن من يخيف الناس أكثر هي أفعال من يزرعون القنابل ويطلقون الرصاص. الآراء الخاطئة أو المتطرفة لا ينبغي لها أن تخيفنا، بل لعلها المحفز الأساسي لظهور الآراء الصائبة. 


المؤسسة الدينية مؤسسة مستقلة بنص الدستور، والأفراد من المفكرين والباحثين والكتاب أفراد مستقلون أحرار بنص الدستور. وعلى الدولة والمؤسسات والمواطنين احترام الدستور، فإن اختلفوا فالدستور ــ وليس المواءمات التي أعلن الرئيس انتهاء عصرها ــ هو وحده الحكم.


 احتكار المعرفة والرأي ومحاولة إسكات المخالفين بإرهابهم وتأليب الدولة والمتشنجين من العوام عليهم ممارسات تنتمي لأزمنة قديمة، وعجلة الزمن لن تعود للوراء كما يؤكد الرئيس دومًا.. ونحن نصدقه.