رحلة مع كتابات "رائد الصحافة الساخرة".. يهودي وهب نفسه للإسلام
بعدما فقدت الأم اليهودية أبناءها الأربعة فور ولادتهم مباشرة، ذهبت لأحد شيوخ منطقة باب الشعرية عندما حملت في طفلها الخامس، بناء على نصيحة إحدى صديقاتها المسلمات، ليتلو الشيخ عليها نبؤته قائلا "إن الله سيبارك ثمرة أحشائك وستُرزَقين بولد، وإن نذرتيه للدفاع عن الإسلام فسوف يعيش، اكسيه من حسنات المؤمنين، ليكون متواضعاً، ولسوف يجد ما يريد بفضل بركة خالقه".
حين كبر الطفل عاهد والدته على أن يوفي نذرها، وأن يجند نفسه لخدمة الإسلام والمسلمين، وأن يجعل رسالته هى مكافحة الأباطيل، التي تفرق بين المسلمين والمسيحيين، بإظهار سماحة القرآن وحكمة الإنجيل.
هو رائد الصحافة الساخرة، وأحد مؤسسي المسرح المصري، يعقوب صنوع، الذي يروي تلك القصة في إحدى مقالاته بجريدته "أبو نظارة".
يعقوب صنوع، المولود في مثل هذا اليوم عام 1839، كان والده يعمل مستشاراً للأمير يكن، حفيد محمد علي باشا، الذى أمر بأرساله في بعثة دراسية إلى إيطاليا على نفقة الحكومة المصرية، لدراسة الفنون والأدب عام 1853، ليعود بعد ثلاث سنوات للعمل بالتدريس في مدرسة الهندسة.
"ليس من السهل أن أروي قصة مسرحي، ذلك المسرح الذي كان في الواقع يستدر دموع الفرح من عيني، غير أنها كانت في الغالب مصحوبة بالألم. ولد هذا المسرح في مقهى كبير، كانت تعزف فيه الموسيقى في الهواء الطلق، وذلك في وسط حديقتنا الجميلة (الأزبكية) في ذلك الحين (عام 1870)، كانت ثمة فرقة فرنسية قوية تتألَّف من الموسيقيِّين والمطربين والممثلين، وفرقة تمثيلية إيطالية، وكانتا تقومان بتسلية الجاليات الأوروبية في القاهرة، وكنت أشترك في جميع التَّمثيليات التي تقدم ذلك المقهى.. وإذا كان لا بد لي من أنْ أعترف، فلأقل إذن إن الهزليات والملاهي والغنائيات والمسرحيات العصرية التي قدمت على ذلك المسرح هي التي أوحت إليَّ بفكرة إنشاء مسرحي العربي" .
كانت هذه كلمات صنوع بإحدى مقالاته، حين أدرك أن وظيفة المدرس لم تعد تلائم شخصيته المبدعة الحركية، لذا فكر في إنشاء مسرح وطني، يقدم تمثيليات عربية، و أيضا تمثيليات مترجمة عن الفرنسية والإنجليزية والإيطالية، حتى بلغ نجاحه قصر الخديوي إسماعيل، الذي طلب منه أن يعرض مسرحياته في القصر، وأطلق عليه "موليير مصر"، في إشارة للكاتب المسرحى الكبير موليير وجولدوني.
تحدث يعقوب صنوع خلال مقالاته و كتاباته عن حكايات عدد من أعماله المسرحية، قائلًا:
- مسرحية الوطن والحرية: تناولت فساد القصر، وسياساته غير المنضبطة، وقتها غضب الخديوي وأغلق مسرحى، ثم نفاني إلى فرنسا بعد ذلك، نتيجة لتحريض بعض الشخصيات المقربة منه.
- مسرحية البنت العصرية: تناولت مشكلة انسياق بعض الأسر وراء تقليد الغرب في انغماس الفتيات والنساء في حياة اللهو والسهرات، فتظهر المسرحية ضرر هذا الانقياد الأعمى للتقاليد الغربية.
- مسرحية الضرتين: استعرضنا فيها مشكلة تعدد الزوجات، و ما يترتب على ذلك من تفكك في الأسرة وتعاسة في المعيشة، خاصة أن تلك الظاهرة منتشرة عند الباشوات والأمراء، الذين يقتنون عددا كبيرا من النساء في قصورهم كما يقتنون الخيول والأثاث.
- مسرحية البورصة: عالجت مشكلة الصعود والهبوط المفاجىء في الأوراق المالية، وتأثير ذلك على مصالح الأسر.
- مسرحية العليل: كانت دعاية لمشروع افتتاح الحمامات الكبريتية، و نصح للمرضى والمشوهين الذهاب إلى هذه الحمامات، التي تشفي مياهها جميع الأمراض المستعصية.
مع تشجيع جمال الدين الأفغاني، والشيخ محمد عبده له على الاهتمام بالكتابة في الصحـف، إلى جانب المسرح، قرر صنوع تأسيس صحـيفة عـربية تكتب بالعامية، اختار لها اسم "أبو نظارة"، والتي يحكي في مقالته بالعدد الأول للجريدة، كيف وقع اختياره على هذا الاسم: "خرجت من بيت الأفغاني في يوم ما، فأحاط بى عدد من أصحاب الحمير، و كان كل واحد منهم يريد أن اختار حماره، ويقول: "ده يا أبو نظارة"، فأعجبني النداء واخترته اسـما للصحيفة، خاصة أنه يوحي بأن صاحبه رجل يرى من بعيد، وفي ذلك ما يعني أنه رجل ملهم ذو نظر لا تفوته فائتة".
كانت صحيفة "أبو نظارة" ذات توجه اجتماعي ناقد؛ فنددت بزيادة الضرائب والتدخل الأجنبي وهاجمت الوزراء بأسلوب ساخر ملتوٍ و نكات وفكاهات، وشجعت المصريين على الشكوى وبصَّرتهم بحقوقهم، ما أدى إلى مصادرتها المستمرة، واضطر ذلك صنوع لتغيير اسمها، فهي مرة "أبو نظارة"، وأخرى "أبو نظارة زرقاء"، وثالثة "رحلة أبي نظارة زرقاء" و رابعة "النظارة المصرية".
وصل عدد طبعات الجريدة إلى 3300 نسخة، حتى في زمن المنع من قبل الرقيب، كان الطلب عليها عاليا، ما جعل الباعة يهربونها عن طريق طيِّها داخل الصحف الأخرى، و ساعدهم في ذلك صدورها في ورق من القطع الصغير.
وفي أحد الأعداد، كتب صنوع شكلاً من أشكال الإعلانات الخبرية في صورة حوار ساخر، كان الهدف منه هو تعريف كل من يود من القراء في مصر كيفية الاشتراك بالجريدة والحصول علي الأعداد القادمة والسابقة، وجاء كالتالي:
أبوخليل: إنما إذا ما فلحوش المرة اللي فاتت يفلحوا المرة الجاية لما يقروا جريدة النظارات المصرية ويشوفوا أن هناك موجودة رجال مستعدة لمساعدتهم.
أبوالشكر: ربنا حليم هو يأخذ بيدهم ويعينهم أحنا في صاحبنا أبونظاره زرقة رايح يعمل إيه في باريس.
أبوالعنين: يعلم عربي ولغات أوروباوية.
أبوخليل: ويكتب رحلته بصفته جورنالا يبعت منه كل جمعة نمرة علي يد البوسطة الفرنساوية في جواب وتمن الاشتراك يكون خمسة وعشرين فرنك، الثلاثين نمرة يصير إرسالهم له عند وصول أول نمرة.
أبوالشكر: خمسة وعشرين فرنكا كثير.
أبوخليل: طبع العربي في باريس غالي وكمان كل نمرة فيها يرسم صورة شيخ الحارة وجامعته واحد بواحد.
أبوالعنين: إن كان الأمر كدا خمسة وعشرين فرنك قليل والله ولا شك أن أولاد مصر وإسكندرية والأرياف تشترك إنما يرسلوا الفلوس إزاي.
أبوالشكر: يا إما عن يد بنك فرنساوي أو يشتروا ورقة حواله من البوسطه أو عن يد حبيبه أبونضارة بيضا في إسكندرية ويكتبوا له جواب وهذا عنوانه: proF.james_ Sannua
45ruelenghin parisوهو يرسل لهم كل جمعه نمرة عن يد البوسطة باسمهم تصلهم بالسلامة.
ورغم القيود التى فرضت عليه، دفعه إصراره لإصدار مجلات عدة الواحدة تلو الأخرى، لا يغير سوى أسمائها، فالأولي كانت "أبو صفارة"، وبعد أغلقها ظهرت "أبو زمارة"، التي جاء في افتتاحيتها ما يلي: "بسم الله الرحـمن الرحـيم، الحمـد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أنبيائه أجمعين أما بعد، فيقول العبد الحقير أبو زمارة لما بلغني بأن صدر أمر من ناظر الخارجية، بقفش وكسر الصفارة الساعية في استحصال التمدن والحرية، قلت ياربي نور عقلي وفهمي وانصرني على الواد الأمرد مصطفى فهمي. إللي أمر بتعطيل صفارتي البهية العزيزة عند الشبان المصرية"، ثم صدرت مجلة "الحاوي"، التي وصفها صاحبها بأنها "الحاوي الكاوي إللي يطلَّع من البحر الداوي عجايب النكت للكسلان والغاوي ويرمي الغشاش في الجب الهاوي".
وحين تطرق حديثه عن الشخصيات المصرية اليهودية، ذكر الدكتور عبد الوهاب المسيرى فى موسوعته "اليهود واليهودية والصهيونية"، أن صنوع كانت له علاقة وطيدة بالتنظيمات الماسونية، قائلا “صنوع والأفغاني قد نشطا في التنظيمات الماسونية، التى لعبت دورا في دعم الحركة الوطنية المصرية، واستخدمت كل دولة أوروبية المحفل الماسوني التابع لها، كأداة في صراعها الاسـتعماري بين بعضها البعض، واستفاد كثير من زعماء الحركات الوطنية من هذا الوضع”.
وفى 2001 و بعد مرور 89 عاما على وفاته فى منفاه بفرنسا، ظهر كتاب "محاكمة مسرح يعقوب صنوع"، لأستاذ الأدب، الدكتور سيد على إسماعيل، ليؤكد أن يعقوب صنوع ما هو إلا أسطورة خيالية، فلم يكن مؤسسا للمسرح المصري، بل و لم يمارس النشاط المسرحي من الأساس، مطالبا من يجد دليلا على عكس ذلك فليقدمه.