التوقيت الإثنين، 23 ديسمبر 2024
التوقيت 09:58 م , بتوقيت القاهرة

الصديد!

كم نكره تلك المادة اللزجة القوام التي تسيل من أجسادنا معلنةً عن كم ما أصابنا من مرض. نكرهها ونتقزز من رؤيتها، تقشعر أبداننا من ملمسها، وترتسم على وجوهنا علامات الامتعاض إن زكمت رائحتها أنوفنا. لكن هذه المادة المثيرة للغثيان لا تنبع من خارجنا، بل هي كرات دمنا البيضاء التي ماتت وهي تدافع عنا ضد العدوى. هي خليط من مقاومتنا وأنسجتنا الميتة وأشلاء العدو أيضًا. وكما يأتي تكون القيح في الجروح دلالةً على تلوثها وتمكن المرض منها، يأتي خروجه من الجرح دلالةً على قوة المقاومة ورغبة الجسد في الشفاء.


تبدو لنا كثيرٌ من النقاشات الدائرة اليوم في مجتمعنا حول الدين والسياسة والمرأة والهوية أشبه بصديدٍ ينفجر في وجوهنا. تصيبنا اللغة المسفة بالتقزز، ونقلب شفاهنا امتعاضًا من أساليب الحوار وموضوعاته. ما هذه القضايا الميتة التي يصرون على إعادتها للوجود؟ تلتهب أعصابنا نفورًا وغضبًا كما يعمينا الغضب إن داس أحدهم على جرحنا المعبأ بالقيح. يسب بعضنا ويلعن، ويشيح بعضنا الآخر بوجهه في سخط وقرف. لكن صب اللعنات والتجاهل لا يقدران على حسم النقاش إلا بقدر ما تستطيع المسكنات علاج الورم.


نقاشاتُنا وقضايانا المثارة في إعلامنا وصحفنا ومواقع تواصلنا الاجتماعية هي انعكاس أمينٌ لثقافتنا ووعينا الجمعي وتعليمنا وما ندركه عن حاضرنا وماضينا. وما حاضرنا المشبع بالصديد غير جروح ماضينا الطويل التي اخترنا دومًا أن نغلقها دون تطهير. يمر علينا عصرٌ وراء الآخر، وكل عصر يغرس في أجسادنا نصاله الصدئة حتى اعتدنا الألم. نرفض المكاشفة ونأبى المصارحة كمريض الخُراج الذي يرفض إجراء الجراحة مكتفيًا بالأدوية المؤقتة، ويظن في شعوره المؤقت بالتحسن أن مرضه قد غادره. لكن هذا المريض الذي يخشى مشرط الجراح ما يلبث أن تتدهور حالته وينتشر الصديد في جسده من موضع لآخر كثعبان يتمدد في الشقوق.


نقاشاتنا اليوم ــ وعلى رغم كل ما قد تبدو عليه من فجاجة وسطحية، وما تتسم به من تعنت يصل للتطرف وانتقائية تجعلها أشبه بالتدليس المتبادل ــ هي المشارط التي ستدفع بالصديد الذي حاصر أجسادنا فغطى الجلد واللحم وقارب العظام للخارج. هذا الصديد المتمثل في الأفكار القديمة والقيم القديمة والبُنى الاجتماعية والاقتصادية القديمة، والذي تكون عبر قرون من التخلف لم يعد من الممكن اليوم تجاهله أو تجاهل آلامه. في كل مرة حاول الوعي المصري في القرنين الآخرين أن ينكأ جراحه ليطهرها كان ينكُص على عقبيه. في كل مرة كانت أعذار المريض المذعور من آلام الجراح أقوى صوتًا من حجة الطبيب وعلمه. مرةً نصمت باسم التوافق الوطني في مواجهة الاستعمار، ومرات نصمت باسم الحفاظ على تماسك قوى الشعب العامل الزاحف نحو الثورة والحرية. نصمت لأن لا صوت يعلو فوق صوت المعركة، ونصمت لأن أخلاق القرية تكفينا لمواجهة التحديات. نصمت باسم محدودي الدخل فتعلو أصوات محدودي الموهبة والطموح. ونصمت باسم الثوابت الدينية والمجتمعية والاستقرار فلا نسمع سوى صوت الركود الأشبه بفحيح الأفاعي في البرك الآسنة. 


احتكار مؤسسة واحدة للخطاب الديني غلقٌ للجرح وحمايةٌ للصديد. الحفاظ على مجانية التعليم كما هي بلا تطوير لمعاييرها وأهدافها غلقٌ للجرح وحمايةٌ للصديد. الرضا بأشد أنواع القوانين تكلسًا وتخلفًا في عالم يتسم بالمرونة والانفتاح غلقٌ للجرح وحمايةٌ للصديد. الاقتراب في خجل من خُراج زيادة السكان السرطانية حمايةٌ للصديد. وكذلك العجز عن مواجهة مشكلات البيروقراطية وآثامها وفساد القطاع العام والخاص في أوضاع تجعل المؤسسات أشبه بالمغارات التي لا يعلم من خارجها ما يدور داخلها ليس سوى تغذية للقيح الضارب في الجذور. ممالأة قوى التخلف والجهل واسترضائها تحت مسميات الضرورة لمواجهة الإرهاب لن ينتج عنها سوى مزيد من الجروح، وما جراح التسعينيات ببعيدة. نفاق الشعب باسم العظمة والحضارة والريادة لن يزيد من حماسه، فقط سيمنح صديدنا لونًا قاتمًا فنظنه دمنا السليم. 


لكن، ألا نلحظ مع كل ما تبدو عليه الأمور من فوضى وعبث أننا نزداد وعيًا؟ ألا تزداد قدرتنا على تمييز الغث من السمين؟ ألسنا اليوم أقل عرضةً لتصديق الشائعات والأخبار المكذوبة؟ ألسنا أكثر قدرةً على مواجهة الذات؟ نعم أصابنا الإرهاق والكمد والملل والقرف، ولكن هل يشفي الجسد الذي أعطبته القرون في يوم أو شهر أو عام؟ كلما قل الصديد في جروحنا وصفت دماؤنا كلما هدأت نقاشاتنا وصارت أكثر موضوعيةً وجدوى. فقط علينا أن نتحمل الألم في صبر وأناة. يسيل الصديد من أجسادنا مختلطًا بدمائنا، لكنه يحمل في خروجه المرض كذلك.


نعم قد نشعر بالسخط لحال إعلامنا وأحزابنا وصحفنا ومدارسنا وجامعاتنا ومؤسساتنا الاقتصادية، لكن مجرد اعترافنا بوجود هذه المشكلات وطرح الحلول لها هو بداية الشفاء. قد لا نصل للحلول دفعة واحدة فزمن انتظار المعجزات قد ولى منذ عهود سحيقة. لكن النقاش المستمر والجدال المستعر سيدفع بالآراء الصائبة للصدارة. لتعثر على اللؤلؤة عليك أن تزيل الوحل من حولها أولاً، ومن أراد العسل عليه الصبر على لدغ النحل كما يذهب مثلنا القديم.


فلنناقش كل شيء، ولنستمع لكل الآراء. فلنهاجم ولندافع بكل حمية وإصرار. هذه المعارك لا تُسيل الدماء بقدر ما تمنحها الحيوية اللازمة لمجابهة المرض المتوطن. فلنتحمل العبث والتفاهة والنزق والجنون، فمن قلب الركام ستنتصب الأبراج العالية القائمة على العقل. لا ينبغي أن نكون كأجدادنا الذين ضمدوا جراحهم على عجالةٍ وارتدوا فوقها الثياب الثقيلة لإخفاء النزيف والرائحة النتنة، فلم يورثونا غير وهم الصحة. أتفهم الرأي القائل بأن المجتمع لا يتحمل هذه الصدمات التي تهز أعمدته الفكرية والنفسية والاقتصادية دفعةً واحدة، لكن على أصحابه أن يتفهموا كذلك أن إعادة بناء الأعمدة أفضل من ترميمها الظاهري. ذلك الترميم الذي قد لا يمنعها من الانهيار فوق رؤوسنا على غفلة منا ونحن نيام.


لا يخدعنك الصديد ولا يخيفنك.. مصرُ تتعافى. مصر التي تحارب الإرهاب والفقر والفساد والتسيب والخيانة والعجز والجهل في آن واحد تتعافى.. وستنتصر. فقط لا تترك المشرط يسقط من يدك.. أنت جرّاح نفسك.